هاجس الموت في الوجدان الشعبي

فارس خضر يرصد في 'ميراث الأسى' عددا من الملاحظات الأولية المتعلقة بمراسم الموت وطقوسه التي تهدف إلى اعتبار الموت ميلادا رمزيا.

قلم: السيد نجم

لعل هاجس الموت من أهم عناصر الفولكلور من طقوس وبكائيات ومعتقدات وهو الموضوع الذي شغل الباحث

الشاعر فارس خضر,

والله خسارة مضلله ع الحبايب

ونشر فيه كتابه "ميراث الأسى", ضمن سلسلة "الدراسات الشعبية" التي يرأس تحريرها الكاتب خيري شلبي

بداية رصد الكاتب عددا من الملاحظات الأولية التي تتعلق بمراسم وطقوس الموت:

- أنها طقوس تهدف إلى اعتبار الموت حياة أخرى, وميلادا رمزيا, وكأن الموتى ذهبوا وسيعودون يوما ما إلى بيوتهم.

- الإبداعات المتصلة بالموت. تتجه العقلية الشعبية إلى المجاز والنظرة الحيوية للظاهرة.

- تلجأ العقلية الشعبية إلى التحور والتبديل أحيانا, في حالات التطور المستمر, وتصادم معتقد ما مع موروث تفسيري شعبي بدأ يغلب ويشيع, خصوصا بعد زيادة نسبة التعليم.

- احتفاء العقلية الشعبية بالوسائل التطهرية الموروثة مثل الأدعية والتلاوات, أضافت وسائل مادية تطهرية مثل الشكل الهرمي للقبر, روائح البخور, الغطاء الأخضر للنعش, واللون الأبيض للكفن.

- غلبة الخبرة الحياتية وخصوصا الخبرة الزراعية, على تأويل زاخرة الموت.

- تتبدل أشكال بعض المعتقدات القديمة, لغلبة معتقدات جديدة, وهو ما تلاحظ مثلا في تقديم "الشريك" (الذي هو نوع من الفطائر) عند قبر المتوفى في كل زيارة، حيث أن اسم الشريك هو لصنم عرفه المصريون قبل الإسلام!

- وضح الآن أكثر عما قبل, غلبة النصوص القرآنية والإسلامية على النصوص الشعبية القديمة التي عرفت في تلك المناسبة خلال الأزمنة السابقة.

توقف الكاتب أمام قضية هامة ولافتة, ألا وهى النظر إلى الموروث الشعبي بعين متحمسة غير منتبه إلى العيوب والمآخذ التي قد تعتبر من أسباب تخلف القرى أو البلاد!

يرى أنه يجب أن نتحصن بالجانب المضيء من ميراثنا الشعبي, وفي الوقت نفسه لا ندير ظهورنا لما يحرزه العلم من قفزات. وعموما تنشط الدراسات الإنسانية دوما في مواجهة التهديدات الخارجية، للبحث عن الجذور الأولى للهوية، وهو ما عبر عنه مثلا توافر العديد من مواقع الفنون الشعبية على شبكة الإنترنت.

حسب نظرية فان جنب عن الطقوس, فإن ثلاث مراحل تتألف منها طقوس كل مرحلة من مراحل دورة الحياة هي: طقوس الانفصال, طقوس التحول أو الانتقال, وطقوس الإدماج. وهي في الموت, طقوس تسبق خروج الروح وحتى الدفن, ثم طقوس الدفن, ثم طقوس ما بعده. وإن كان من الصعوبة الفصل التام بينها.

القاسم المشترك في غالبية المعتقدات المتصلة بالموت هو أنها تحمل فكرة التنبؤ بالمصير. وقد ذاع في كل المجتمعات الإنسانية بأن معرفة الموتى تفوق معرفة الأحياء, وأن المحتضر عنده قدرة على التنبؤ تفوق غيره. لذا فإن أي إشارة أو مقولة أو سلوك تسبق الموت تجد الباحث في تأوليها والبحث عن دلالتها الرمزية.

الأحلام أولى تلك الظواهر الطبيعية التي تخضع للتأويل في العقلية الشعبية. وفي التراث, يتنبأ عامر خفاجي في "السيرة الهلالية" بموته بعد سرد حلمه لابنته, يقول:

"رأيت منام إنما المكنام أراعني

وحسيت عقلي دوابه من العقل غايب

رأيت شجرة يا بنت وسط منزل

وهجموا العدا بسلاح جابوها قضايب

كحتوا على الشجرة وقطعوها

والله خسارة مضلله ع الحبايب"

وهناك أحلام تنبيء بوفاة الزوج, أو بوفاة شاب, أو بوفاة كبير العائلة, أو أحد الجيران.. الخ. كما تنقسم الأحلام المنبئة بالموت إلى نوعين:

- الأحلام ذات الدلالة الرمزية، بفقد أدوات أو أطعمة أو متعلقات خاصة. كما أن هناك من الأحلام الرامزة وبلا تعليل واضح أجمع عليها الناس. زمنها تناول اللحم النيئ, أو العجين, أو اللبن الرائب, أو شرب الماء العكر, وغيره.

- أما النوع الثاني، فهي الأحلام ذات الدلالة المباشرة, كأن يحلم المرء بأحد الموتى يخبره باقتراب أجله, والإخبار بشكل مباشر.

ثم جاءت فكرة الطيور والحيوانات المنبئة, تلاحظ فيها أن بعضها تأكل الجيف (أو جثث الهالك من غيرها), وهو ما يبرر (كما يعتقد) أنها تملك القوة السحرية لرؤية الكائنات فوق الطبيعية. كما يعتقد أنها تحمل أرواح الموتى السابقين، فالطيور تنقلها إلى السماء عقب خروج الروح, والحيوانات تتلبسها هذه الأرواح عند عودتها إلى الحياة مرة أخرى.

ربما التفسير الموضوعي أن الإنسان البدائي بسبب خوفه من الظواهر التي يجهل عللها, يبتكر عددا هائلا من المعتقدات الخرافية.

والمصري القديم اعتقد أن أرواح الموتى تطير إلى السماء كما الطيور. حتى أن متون الأهرام سردت تلك المقولة: "أن الميت يطير فى شكل طائر إلى السماء". وقد حدد لونه باللون الأخضر للموتى صغار السن.

أما "البوم" و"الغربان", فهي نذير تشاؤم أحيانا, إلا أن البعض يعتقد أنها مثيرة للتفاؤل أحيانا إذا ما أصدرت أصوانا أشبه بالزغاريد. وربما الغراب أعلى درجة من البومة في درجة التشاؤم، فالثانية لا تسرد كثيرا في التراث الشعبي, على العكس من الغراب:

"زعق الغراب يا أماه .. شويت وراه طوبه

قاللي أصبري يا خايبة .. دي شقاوة مكتوبة

وزعق الغراب يا أماه .. شويت ورآه حجر

قاللي اسكتي يا خايبة .. دا وعد وقدر

زعق الغراب يا أماه .. رميت وراه قالب

قاللي اسكتى يا خايبة .. دا اللي انكتب غالب"

كما تتعدد المنبئات الأخرى بالموت, مثل قراءة الفنجان, أو ما شاع "قراءة الطالع" لاستجلاء المستقبل. وهو ما يقرأه قارئ الفنجان من تلك التجمعات لبقايا القهوة, وبعد عدد من الحركات الطقسية. ويتعرف على الموت بعتامتة الفنجان, أو وجود أشكال تشبه النعش أو القبر.

الطريف أنه أحيانا لا تتشكل أية أشكال, فيردد قارئ الفنجان بأنه "مسدد وكل سككه مقفلة". والعقلية الشعبية تعلي من شأن قرَّاء الفنجان الغرباء, حيث لا يعلمون أية أخبار عن صاحب النبؤة.

كما أن الظواهر الطبيعية, مثل الرعد والبرق, وهى التي أثارت خوف الإنسان القديم, لجهله العلل والأسباب. ولأنها قادمة من السماء, والسماء مكان الحساب والعقاب, فكان من المنطقي أن يربطوا بينها وبين الغضب الآلهي، لذا لم تكن نذيرا للموت فقط.

وحول "الموت", تكون المرحلة السابقة عليه, هى مرحلة الوداع, والمرء هو "المودع", لذا تقول "المعددة" (وهي السيدة التي تنوح على الميت بعد الموت ويبكي على كلماتها أهله وجيرانه):

"زرت المشايخ والقبتين سوا

ما لقيت لكم يا مودعين دوا

زرت المشايخ والقبتين للباب

ما لقيت لكم يا مودعين طبيب"

ثم تتغنى لذلك الذي مات دون وداع لأهله وناسه. بل تكثر النصوص الشعبية حول ممارسات الفرد الموشك على الموت، حتى "السيرة الهلالية" في وقائع مقتل الخفاجي عامر, ذلك لملك العراقي لحظة توديعه لابنته "ذوابه" يقول الراوي:

"وضع قدمه الفتى في الركاب

وقال ابكي قوى وودعيني

يا ذوابه أمر الملك التواب

أنا رايح الميدان ودعيني

الوداع.. قال يا ذوابة الوداع.. الوداع"

وتأتي مرحلة الوصايا, وهي على نوعين, الأولى ذات وظائف تطهيرية، كإتمام الحج للمحتضر عنه, حيث لم يقم به, أو بالتصدق على روحه.. وغير ذلك. أما النوع الثاني فهي وصايا اجتماعية، مثل الحفاظ على العادات والموروثات أو رد الديون عن المحتضر.. الخ.

نعود إلى السيرة حيث يقول الراوي على لسان الخفاجي:

"اعدلني على القبلة الزين

يا اسمر اعدلني على القبلة الزين

عيوني قد سيل دماها

وميل شهق شهقتين

الروح وصلت مولاها"

أما الرموز الحلمية, فهي مستوحاة من البيئة الزراعية والحياة الاجتماعية للجماعة الشعبية المصرية.

ووضح أن أغلب المعتقدات المتعلقة بموضوع الموت تتشابه في كل البيئات والتجمعات البشرية على الأرض المصرية.. فهى غالبا من موروثات معتقدات قديمة, وإن اكتسبت بعض الثقافات الدينية التي لا تتصادم مع هذه المعتقدات.

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

0 Response to "هاجس الموت في الوجدان الشعبي"

إرسال تعليق