قراءة في رواية جسد وجسد ..متابعة روز الزهراء



يلاحظ المتلقي في رواية "جسد وجسد" للكاتب السوري عبدالباقي يوسف، طغيان حضور المرأة، لكننا حين نتمعن فيها نجده هامشيا عن الحضور النوعي والمؤثر، إذ لم تكن المرأة (سماح) نداً للرجل، بل تابعة للرجل، فهي أمية ضعيفة، فقيرة، تشحذ رزقها اليومي، فتطرق أبواب الغرباء.

وما يؤكد هذا القول أن حبيبها المثقف (قطب) يحدثنا صراحة عن نظرته إلى النساء، فقد تعرف إلى كثيرات منهن في العاصمة، لكن ذلك لم يكن يتعدى الجلوس في مكان عام على مائدة سهرة ولتضييع الوقت مع إحدى الحسناوات: "وفي النهاية كنت أتركها مع المائدة مثلما أترك ما تبقى من طعام وشراب وأمضي". ‏

هنا يشيّئ المثقف المرأة التي لا يحبها يستطيع تركها بسهولة، دون أن تترك له أي أثر في نفسه، ستتغير تلك النظرة المستخفة بالمرأة حين يتعرف على المرأة الغجرية الفقيرة (سماح). ‏

يرسم الكاتب ملامح المرأة هنا بطريقة مؤسية، إذ أفقدها الفقر كل لون من ألوان الأنوثة، وقد بلغت أقصى حدود المهانة حين ترضى بشحذ لقمة عيشها! ‏

يعجب بها الشاب الأعزب )قطب) الذي يعيش وحيدا فيقبل بترددها على منزله كل أسبوع لتنظيف بيته! ‏

تتيح صفات المرأة وإمكاناتها المحدودة فرصة للرجل أن يبدو أستاذا للمرأة، لهذا يحاول أن يطور شخصيتها بالعلم، فكان يعطيها دروسا في القراءة والكتابة، مشفقا على شبابها الضائع في الجهل "إنها لا تعرف شيئا، وسأصنعها، أعلمها كل شيء، وسأتابع نتائج عملي، وهي مهيأة لاستقبال كل خطواتي، في لا شعورها طفلة في العشرين لا تعرف العدد من المعدود، لا تعرف الموسيقى ولا تجيد الكتابة، لا تعرف شيئا عن تاريخ العالم الحديث". ‏

لكن المرأة الغجرية ترفض في البداية التعلم فنسمع صوت الجهل الذي يستخدم منطقا مغلوطا يتناسب ومستواها المعرفي المتدني، لهذا تقول له: ‏

ـ لا أريد أن يكبر عقلي دعه صغيرا. ‏

ـ لماذا؟ ‏

ـ لأن العقول الكبيرة يجب أن تكون للرجال، المرأة التي يكبر عقلها تتحول إلى رجل يرفضها الرجل...‏

صحيح أنها عاشت في بيئة متحررة منذ طفولتها، لكنها حرية وهمية، لأن الجهل ينتزع مكاسب المرأة ويحيلها إلى عبدة تحاصرها قيوده! ‏

تقول: "إننا لا نؤذي أحدا. هذا أمر يخصك ويخصني، وبالتالي علاقتنا مع الله، لا أحد يدّعي علينا، جسدي يعنيني فقط، إنه ليس ملكا لأحد، ليكون وصيا عليه، إننا نعيش في مجتمع متخلف أكسبنا الكثير من عقده وتخلفه.." ‏

أما ابنة المدينة (الأرملة كلوديا) التي تعيش حياة مريحة، تناقض حياة الغجرية، فتجدها تعاني أزمة ضمير في علاقتها مع (فؤاد) الذي يخالفها في الانتماء الديني، صحيح أنها كانت تعيش معه لحظات حب هاربة تقضيها معه، لكنها بدت منغصة يشوبها عدم الرضى عن الذات، فقد كانت تحس بأنها تلوث "شيئا مقدسا" لا يجوز لها تلويثه! ‏

وقد سيطر عليها هذا الإحساس بسبب تربيتها الدينية، التي تبدو ذات تأثير قوي! لذلك؛ تقول لحبيبها كلاما يناقض ما سمعناه من الغجرية "أنا سعيدة معك، لكنها سعادة غريبة لم يسبق لي أن عرفتها، هل هي سعادة الكآبة وآخر حدود القهر والبؤس، لا أعرف لماذا أحس بأننى لن أكون راضية عن فعل إلا إذا رضي عنه المجتمع والأسرة والكنيسة أيضا، فهل ما أفعله يرضي هؤلاء أم يرضيني وحدي فحسب؟". ‏

إذا تبدو المرأة مؤرقة بسبب علاقتها غير الشرعية مع الرجل ليس لأنها ترفض مثل هذه العلاقة، بل بسبب هيمنة السلطة الاجتماعية والسلطة الدينية، فهي تفكر بما يرضي هاتين السلطتين لهذا لم تبد مرتاحة لعلاقتها مع رجل يخالفها الانتماء الديني! لاسيما أن أحد الرجال تجسس عليها، وحاول ابتزازها بسبب تلك العلاقة! ‏

تبدو فكرة الزواج مستحيلة، لهذا لن تناقشها كلوديا مع فؤاد، ولو قارنا رد فعل كل من الرجل والمرأة إزاء تلك العلاقة، للاحظنا أن المرأة لا تبدو مرتاحة في علاقتها غير الشرعية مع الرجل، فهي تعيش مؤرقة بأفكار بيئتها الاجتماعية والدينية التي تربت عليها. أما الرجل فيبدو سعيدا بتلك العلاقة غير الشرعية وغير المسؤولة لذلك يرى في الزواج تدميرا لحريته، فهو لا يتخيل نفسه يدخل بيتا يتسول فيه يد ابنتهم، فيضعون شروطا فوق طاقته حتى يتكرموا ويوافقوا على أن يجلب ابنتهم لتحجز حريته، إذ يتردد أفراد أسرتها كل يوم لزيارة ابنتهم، وتحطيم نظامه اليومي، وهذا كله دون أي لقاء سوى إضاعة حياته والتفرغ لما تطلبه تلك السيدة، وأولادها الذين سيأتون ويفسدون حياتي، ويرمونني في سجن طلباتهم وإشكالاتهم.






























عبدالباقي يوسف



إننا أمام صورة قاتمة للمؤسسة الاجتماعية التي يقوم عليها الزواج، كنا قد لمسناها أيضا في رواية "سرير الوهم" إذ تكررت الشكوى من أعبائه المادية، لكن عبدالباقي يوسف يضيف إليها الأعباء النفسية التي يفرضها الزواج في بعض الأحيان.

في مقابل هذه الصورة القاتمة للزواج في الحاضر! نجد الكاتب يقدم صورة مشرقة له حيث الرجل (والد قطب) لا يملك شيئا، ويعيش بعيدا عن أهله، وحين يشكو لجد (قطب) أنه لا يجد من يعينه على الزواج، نجده يعرض عليه ابنته قائلا: "يا ناهل لن أجد لابنتي (ضحى) شخصا تقيا ورعا مثلك، سيكون مهرها أنك في كل سنة وفي شهر رمضان تهدي إلي ختما من القرآن ما دمت حيا ترزق، وتوصي أولادك وبناتك الذين تنجبهم (ضحى) أن يفعل كل واحد منهم ذلك، ما داموا أحياء يرزقون، لا علاقة لي بالأحفاد، وأنا لقاء ذلك سأقوم بتجهيزها بما يقدرني الله عليه، وأضع يدها في يدك حليلة..." ‏

مع سيطرة القيم المادية الاستهلاكية اليوم ضاعت القيم الروحية التي أسست حياة الأجداد ووجدوا فيها خلاصهم لهذا كان مهر ابنته هدية معنوية ذات أبعاد دينية: هي تلاوة القرآن الكريم، ووهبها إلى روحه! ‏

يبحث والد الفتاة في زوج ابنته عن صفات أصيلة (الإيمان والأخلاق) هي ضمان للزواج الناجح لهذا يسهم في تأسيسه على المودة والرحمة بعيداً عن المظاهر الجوفاء! ‏

في مقابل هذه القيم الأصيلة نعايش في رواية "جسد وجسد" قيماً تقليدية تسهم في تقييد المرأة بمحرمات اجتماعية تنسب إلى الدين! فتبدو المرأة في صورة مشوهة، لهذا وجدنا (أم قطب) لم تكن تخرج من البيت أبدا، ولم يسمع رجل غريب صوتها. فالفكر التقليدي الذي يمثله زوجها يرى أن "صوت المرأة عورة مثل أي عورة في جسدها، وأن الرجل يرى بسمعه جسد المرأة وصوتها بنظره أقوى مما لو رآها رأي العين". ‏

رغم الفكر التقليدي الذي يحاصر المرأة خارج المنزل، وجدنا (أم قطب) تعيش مع زوجها علاقة حب واحترام، في حين كانت المرأة (الغجرية) التي تنطلق بحرية خارج البيت تعيش مع زوجها علاقة غير إنسانية تقوم على الظلم والقهر، لهذا اندفعت في علاقتها مع (قطب) حين لمست إنسانيته ورقته، لهذا وجدناها تحّمل الرجل مسؤولية انحراف المرأة.. فـ "هو الذي يدفع زوجته إلى العهر سواء عن قصد أم غير قصد، لا تنظر إلي هكذا، فأنا لست غبية للحد الذي تتصوره، ما علمتني خفايا البيوت التي ولجتها، لا تقل عما علمتك إياه بطون الكتب التي قرأتها، عندما أعلم بأن زوجي كذاب، يسقط من عيني، وعندما أعلم بأنه غدار، أحتقره وعندما يشتمني أحقد عليه، وعندما يضربني أرغب في الرد. إنه بحركاته هذه يجرد نفسه من أي علاقة بي دون أن يقصد ويفتح الباب لغيره". ‏

كأن الرواية تقول: تبدو المرأة تابعة للرجل، متأثرة بتصرفاته، وردود فعله، لذلك تضيع معالم شخصيتها فتبدو منحرفة حين يكون منحرفا! هل هذا المنطق يليق بالمرأة التي تبحث عن ذاتها، وتريد أن تعيش حياة أفصل؟ هل التمرد على الرجل المنحرف يكون بخيانته؟ هل تمرد المرأة يبيح لها إنجاب طفل من حبيبها (قطب) وإلصاقه بنسب الزوج؟

يمنح الكاتب صورة منفرة للمرأة المتمردة التي تدوس على القيم الأخلاقية، التي تنسجم مع الطبيعة الإنسانية لاسيما في نسب الولد إلى غير أبيه! ‏

إن العبث بالمعطيات الاجتماعية والأخلاقية يشوه صورة المرأة، ولا يسهم في بناء وعي شخصيتها أو نضجها! إن العبث بالمعطيات التي تم التمرد عليها من القوة بحيث تهيمن على لا شعور الكاتب. يموت الطفل، فيتم عقاب المرأة التي ادعته إلى غير أبيه! وبذلك يبرز لنا الكاتب في هذه الرواية أن العبث بتلك المعطيات الأساسية للمجتمع لن يكون دون ثمن باهظ تدفعه المرأة! ‏

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS






















قصص 'شرق بعيد': رعب الحاضر نذير لا مرئي يشق السطح


مجموعة محمد علوان جبر بركان صامت يدب اهتزازه في عروقنا دبيب الكائنات الخرافية المحبوسة تحت الأرض منذ بداية التاريخ الدامي للإنسان.




قلم: زيد الحلي

















مرحى لقلمك



حملت المجموعة القصصية الجديدة للقاص محمد علوان جبر اسم "شرق بعيد"، وهو عنوان لإحدى القصص التي ضمتها المجموعة وهي 16 قصة، اتسمت بتعدد الرؤى والأساليب، وعند انتهائي من قراءة هذه المجموعة وقفت عند قصة "المحطة" وقرينتها "النزهة". وربما كان وقوفي التأملي لهاتين القصتين جاء من إشارة وردت في التقديم الذي زيّن الصفحات الأولى للمجموعة، وهي بقلم القاص المبدع محمد خضير حيث أشار للقصتين آنفتي الذكر بشيء من الإعجاب كونهما عاليتي المضمون، بديعتي السرد، وتأتي قوتهما من تركيز الواقع فيهما وشدة التصاق الوعي بأحداثه. إن القصتين وثيقتان مهمتان على حاضرنا.

يقول القاص محمد خضير في تقديمه لهذه المجموعة إنه قرأها بتأثر وإعجاب .. إعجاب ممزوج بالخوف والوحشة اللذين يلفان كل سطر وكل كلمة فيها، قائلا: "هذه قراءتي وأنا قارئ عراقي قريب من الأحداث، فكيف إذا كانت القراءة لقارئ بعيد عنها، يسمعها ولا ينفعل بها، كقارئنا العربي أو العالمي المجهول، حتماً ستكون قراءته كشفاً من الكشوف المهمة".

تضمنت المجموعة قصة بعنوان "نزهة" وحسناً فعل القاص جبر أن نشر ما كتبه الدكتور حسين سرمك حول هذه القصة التي قال في بعض ما قاله بشأنها "إن نزهة محمد علوان جبر، جاءت كتسوية لمحنة وحل إبداعي يخفف من قلق الموت المشتعل في نفوسنا عبر حلم يقظة طويل، هي (أي قصة النزهة) ناقوس خطر يدقه القاص واقعياً، فكما يقول بسكال: إنني في حالة جهل تام بكل شيء فكل ما أعرفه هو إنني لا بد أن أموت يوماً ما، لكني أجهل كل الجهل هذا الموت الذي لا أستطيع تجنبه، فإن مصدر وأمل الدفع الخلاقة في عملية الموت هي الدهشة المرتبطة بتوقيته وشكله وأسبابه، والشعوب التي تتعامل مع الموت كلغز وجودي يثير دهشتها ويدفعها إلى الفعل لفك إسراره، أي الشعوب التي يشكل الموت في إدراكها معضلة مريرة، هي التي يشكل الموت مهمازا لإنضاج شخصيتها وتحفيزها على الخلق والإبداع، ولكن هذا الأمر يصبح كارثة حين يتحول الأمر في الواقع إلى (نزهة) مصنعة بأيدي الإنسان وشتان بين نزهة الواقع ونزهة الخيال ..".

أهدى المؤلف بعض قصصه إلى عدد من أصدقائه المثقفين في لفتة أخوانية جميلة، فقصة "شرق بعيد" كانت من نصيب الشاعر عبد لانكه الذي يقول عنه صاحب المجموعة "إنه اختفى في ظروف غامضة أوائل سبعينيات القرن الماضي ولم يعرف مصيره إلى يوما هذا". وقصة "توترات السيد ك" إلى حسين عجه، وقصة "واقع موت معلن" إلى عبدالعزيز جاسم، و"بورتريه" إلى محاسن الخطيب، و"الموت الجميل" إلى منذر الجبوري، و"سيدة الماء" إلى حسين سرمك.

تعكس قصص جبر رعب الحاضر الذي يفوق رعب "كورتيز" في رواية "قلب الظلام" لكونراد. هذه القصص لا تعكس الرعب الجاري على سطح الواقع المزري لعاصمتنا بغداد الحبيبة، بل تعكس النذير اللامرئي الذي يحاول شق السطح مثل بركان، وهو بركان صامت يدب اهتزازه في عروقنا دبيب الكائنات الخرافية المحبوسة تحت الأرض منذ بداية التاريخ الدامي للإنسان. تترقب القصص هذا الدبيب وتنصت لقدوم حممه من الأعماق وتواجهه بشجاعة ولا تهرب من كوابيسه الليلية وتهويلاته النهارية.

والقصص هي من وحي الواقع اليومي لمدينة بغداد الذي يغلي سطحها مثل مرجل. إنه واقع رهيب تناجيه القصص وتستدر رحمة قارئها على ضحاياه، بل تستفز وعيه كي يرى بأم عينيه ويتبحر ولا يهرب من التحديق في وجوه الضحايا، أقرب الضحايا إلى قلب الكاتب .. واقع أشبه بالحلم ، بل أبعد من الحلم. إنها وثائق الوعي المستبصر في نهار ساطع الشمس، شديد الحرارة.

وعندما انتهيت من قراءة المجموعة، أيقنت أن الكاتب محمد علوان جبر، حاول في قصصه وقد نجح في بعضها، إن يكتب موضوعات بحجم معاناة الوطن، وبحجم هوائه ومائه وأشجاره وينابيعه وفقرائه وأحراره، في ضوء ارتماء البلاغة بين يديه، كما العاشقة ترتمي بمن تحب وتهوى. فالقارئ لتك القصص، يلمس أنها تنبض بالحياة دون نهاية، وبالكينونة والحركة، دون أن تحيد عن مكانها، تلبس شتى الإشكال ولا تكف لحظة عن الحركة. وهي قصص لا تعرف التوقف، والسكون لديها لعنة وبالرغم من ذلك فهي ثابتة راسخة، حركتها بمقياس دقيق .. دقيق!

وأنا أتفق تماما مع ما قاله الكاتب الكبير محمد خضير عن المجموعة بأنها "مهمة وشديدة الدلالة على حاضرنا الذي يحجم كثير من القصاصين عن ولوج جحيمه وغربلة تفاصيله رغم أن هناك تفاصيل كثيرة لم تمتد إليها المجموعة واكتفت بالوقوف، أو الوصول، إلى حدود الحوادث الكبرى، المعروفة ولكن ما أكثر التفاصيل المدفونة في رماد هذا الحاضر. أهنئ القاص بحرارة ـ حرارة القراءة ـ على هذا الجهد الصادق على خلفية النار والحديد والدم والمشاعر السائرة على قدمين ثابتتين، الحياة للقلم الحر المكافح وبراعة الإنجاز".

وأضيف لقول المبدع خضير، أن قصص المجموعة، قصص تفكر وتتأمل، تحمل مغزاها في ذاتها. الناس جميعاً في باطنها وهي في باطن الجميع. هي تكافئ نفسها وتعاقب نفسها، تفرح بنفسها وتؤذي نفسها، إنها خشنة ووديعة، محبة ومخيفة ولا نهاية لقوتها، كل شيء حاضر في شخوصها، لا تعرف الماضي ولا المستقبل، ودائما الحاضر حياتها! ومن دنف الروح والأسى، ومن ترنّح الدموع في القلوب قبل المحاجر، والعبرات في الأوردة، والأطياف في الحرائق والأحلام في المصارع، جاءت شخوص الكاتب محمد علوان جبر، ويا لها من شخوص يلبسها صباح يجهجه ونوره يترقرق على آفاق الوطن الجريح!

أقول للمبدع محمد علوان جبر .. مرحى لقلمك!

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

عمر أدلبي يرصد سيرة العابر...روز الزهراء تتابع






















عمر أدلبي يرصد سيرة العابر


لولا الإيقاع ما صبرنا على رجل يرصد العابر مفارقاً العرضي والبهلوانيات التي اعتاد بعضهم عليها في إبهار يخبو بعد القراءة الأولى.



قلم: محمد المطرود

















ماذا تخبيء يا موت للعابرين؟



قصيدة الإدلبي "صحف العابر"، ليست جديدة من كونها المجموعة النص الواحد ولا المشتغلة على ثيمة واحدة، ولا من كونها المقسمة درامياً بالشكل الذي فيه تحايل على الطول وبالشكل الذي يضبط المتن ويعزز المتعة البصرية في تتبع العابر وتحولاته، ومن ثم الجمالية المحققة في هذه اللعبة وما تخلق من دهشة، الجمالية التي تروم الساكن والخبيء وتتعالق مع الصوفي والكوني في قضايا صغيرة لكن أبسط ما يقال عنها أنها القضية الجوهر، والسؤال، سؤال تحقق الشعر الشبيه بالسؤال الوجودي وعلاقته الكونية مع ماهيته، كيف ولماذا المؤسستين لقلق هو أس العلاقة الملتبسة واللعينة أيضاً، اللعينة تقود أبداً إلى المخالفة والشرور، شرور الذات، والفردانية العجيبة، بوجود أنا اللغة أو بالوجود المفترض الذي يحققه الشاعر هنا كفضاء وإحاطات وأثر شبيهة بالوقع الذي يتركه العابرفي تنقله في بيئة الإدلبي حاضنة السؤال: "منذ كم ماض سهوتُ/ ولم أفكر في ظلالي/ هل ما تزال تنوء/ من دور الممثل/ في خيال الظل/ أم هجرته/ وانصرفتْ لتشبهَ ذاتها/ أم أنها انكسرت كحالي؟"

السؤال يتصاعد نجمه ليلف الشغل بطابعه، ويأتي مؤنسناً وكأنه الخارج من شاعريته إلى المعنى الصرف إذا جُرد من إيقاع لاينفي عنه تكوينه لذاته، بل يوطد علاقته المثالية القائمة على فهمه في ما يبيحه من الاشتغال في المساحة التي يبينها بإشراقاته وتوسعه حيث الوضوح, وضوح الدلالة، والسيمياء المعمول به في الإشارة وقوتها في نص صوفي "هل سيعودون/ أم أن هذا الوداع الأخير/ سيفرغ آخر نصف بكأس رهاني/ على موعد مشتهى؟"

تكمن جدة الإدلبي في مزاوجته بين مفردتين إحداهما عميقة موغلة في منجز النص القديم، وربما من البديهي فعل ذلك أو تبيانه مع ثيمة أساساً تقتضي هذه اللغة المخلصة لسلف لغوي، فالعابر منجز تاريخي ولاهوتي "خفافاً يمر بنا العابرون/ الأسامي تمر/ ومملكة من أمانيِّ عمري/ وأعمارهم/ تركب النهر حتى فم الملح".

يشتغل على المفردة بدراية إذ أن ما يتبدى للقارئ هو معرفة الشاعر بالمساحتين، في حين أبين المفردة الثانية موضوع المقارنة أو المزاوجة كما ذهبت وهي النص المتطلع إلى مصالحة مع نص يأخذ بالعرضي والتفصيل، وكأن النص الطويل المشتغل في تحصيل دهشته من مناخ يوجده، صار صعباً على متلق يطمح في قصيدة قصيرة وربما قصيرة جداً، ما نجده هنا في تصيد عمر إدلبي جملة مخاتلة وموهمة، بتقنية واستعراض القصيدة (الحديثة)، على ألا أعتبر هروب الشاعر هو تملص من هذر لغوي لا تفلت الطويلة منه عادة "سوف أقول لهم:/ المكان هنا ضيق/ فاتركوا وردكم/ ليس أكثر".

ويقول "المكان هنا رطب/ كيف ينسون معطفي الصوف/ هل قلت معطفي الصوف/ يا للسذاجة/ كانون لم يأت بعد" المقتطف من البياض، الجزء الثالث من التقسيم الذي أرتآه الإدلبي بعد مقدمة الراوي لما كتبه العابر قبل العبور والجسر والعابرون ومن بعد البياض نقرأ كتاب الوصايا وأخيراً الغياب، وفي كل النص يحضر الإيقاع المراهن عليه كشكل مخفف من المبيَّت من الذهنية تجاه النص وطوله وقدرة التفلت من محاذيره وانغلاقاته الصعبة والمعجِّزة، وبالتالي الخوف المبيت الموازي عند المنتج واتفاقهما على المغامرة كليهما القارئ في تتبعه لسيرة العابر، وتحقق السير ذاتي المنصوص عليه،والمنتج في اختياره شكل سرده وخوفه الذي يحدوه إلى بدائل وحوامل توصل المقولة بأقل الخسائر وبأكثر الألق.

"لم أنه بعد قصيدتي/ فاصنع على مهل سفينتي/ ودع الشراع/ فإن أحبابي لديّ" الثيمة الرئيس للاشتغال (العابر) تناصاً والعابر بؤرة التوتر والنقطة المحرقية سرداً بتجمع الذوات حولها،الذات العابر، والذات الشاعر، والذات اللغة، والذات الأب، والذات المهيمنة على روح النص من تعويمها للذوات جميعها، بحضور مساند قوي وفعال في التبئير السيري الموت وإذا أعتبرته ذاتاً أخرى أمكنني تلمس حال السؤال وتحققه باعتبار الموت جزء مشعرناً في إثارته لأسئلة وجودية لها صلة بالحياة والشعر، فالبعد الميتافيزيقي للموت متلاقح أصلاً مع النفس، معمل الفكرة، فكرة تنشيط الموت أو الخلود الذي يوجد به أو بمعزل عنه، وكأن النفس في هذه العلاقة الأزلية تغيِّب البعد في لا شعورها ليتخمر ويكون المكان الطبيعي لنمو القصيدة في حالتها الأولى البكر والذي سيكون الرائز الأهم في اختبار قدرتها على المداومة ببعدها الجواني والمياومة في ترسيخ الحدث الشعري واحتفائه بمقولات عظيمة وأخرى أقل حضوراً تتساندان للنهوض بالنص في شكله الأخير كأن تكون إحدى المقولات الموت بأي معنى، أو البيت بانزياحه، أو الأشخاص ذوي العلاقة البيولوجية المتينة بالمنتج والمنتج، الحبيبة، الأب، عناصر الروي في السيرة الذاهبة إلى غير معناها، إلى قتل المعقولية، أو الانتصار لها مواربة، وهذا أيضاً مكسب جمالي آخر:

"هي رحلة وكفى،/ فقل للنور:/ كن فرساً لظلي/ كي تليق بما تشاء".

ويقول: "كأن الحب حجتنا الوحيدة/ في جدارتنا/ بوقت آخر/ لنكمل المشوار!"

هذا المقبوس يشي بالخسارة وكأن الحب بمقابلته بالموت ملاذ وحيد، الحياة في تفرعها، في وعيها الحدث، وما مقابلتها إلا للتدليل عليها في المعطى نفسه، المشرق البهي بمواجهة المعتم والمضلل.

وجود الموت بمعناه الميكانيكي يحيل إلى الخسارات، والفقد الجارح كنصل سكين، لكن هنا هو ثيمة اشتغال يعيها المنتج بكسر التاء، يدورها، ليعيد إنتاجها ما يعني أن حياة ستصيب المفردة، فالعابر هو أساساً ميت والمخطوط الذي عثر عليه هو الذي قام بتهيئته لحياة أخرى أثرية متحالفة مع جزء منه مخطوطاته وقدرتها على تعييشه، القدرة التي أستطاع الإدلبي إدارتها، بحيث عيَّش العابر، وسار معه، ليتصيَّد سيرته مختبراً نفسه في اللحاق بالكائن/ الشبح، والمؤنسن أيضاً، ليكون شخصاً يشغل الفراغ، على الأقل الحيز الذي يبيحه الشاعر له، الفراغ الجمالي بتماهيه مع الكائن والممكن غير الميتافيزيقي "سرقت حقائب أعمارهم/ وهي مترعة بدموعي/ ولم تك حتى نبيلاً/ مع الزنبقات الصغيرة/ يا موت". الموت أعمى وقاس: "مروا سريعاً/ كأن يديك تشدان خطواتهم للغياب/ كأن يديك تدقان قلبي/ على حجر الحزن/ لكن من عادة القلب ألا يصير حطبا".

تبشير ومخالفة للموت، والإتيان بالمقطعين للدلالة إلى ماعملت المجموعة لبلورة عنوانها في توزعهها إلى فصول متآزرة، ثم لتأت الوصايا إذ تقتضي العادة أن تكون الوصية مندرجة تحت فعل الأمر، هذا ما لم نره إلا في حالة واحدة من الوصايا السبع، والعدد المتناص مع الديني وارتباطه بحالة الخلق الأولى ما يعزز لغة الذهاب مع العابر إلى المنتهى، وما رشح من المناخ الصوفي في عموم النص إلا ترف افترضه الشغل العام للمجموعة، يخلو مفتتح الوصية من فعل الأمر باستثناء الوصية الثالثة "ترفق بالتراب/ وأنت تلثم خدّه/ بخطاك/هذي الأرض/ مركبك الأخير/ إلى قصور الشمس".

على ألا ينسحب الأمر على بقية الوصايا كمفتتح، يحضر الأمر لكن في سياق تأتي به اللغة بسلاسة من خلال أداة موصلة وناجعة في تبيين الوصية وتظهيرها شعرياً، الراوي يصر على الحضور وكأن المسرود الشعري غير كاف، أو شهية القول تتفتح عند الراوي/ الشاعر/ العابر ليطل بين الحين والآخر مشعرناً دخوله، وكأن خللا ما سيفرضه الطول ويرهق المتلقي ولاسيما أن الآخر القارئ غير مغيب يتضح هذا من التقسيم الواعي لذاته من قبل الراوي. ما كتبه الراوي في تقديمه لقصيدة "البياض التي وجدها - على ذمته - بخط يد العابر فوق قبره، بعد عبوره: ومقدمة الراوي لقصيدة "كتاب الوصايا": "وما كتبه الراوي في آخر صفحة من مخطوطه".

تنوس جملة عمر إدلبي بين العلو والدنو لغة وفهما لعلاقة المفردات فيما بينها أو ما يسمى بهندسة الجملة بصرياً ومن ثم نفسياً يقول: "بلاد كلما شابت/ تفيء إلى عذوبتها/ وتحمل من جديد صخر فتنتها/ كأن سقوطها ماكان".

مقطع مشحون مؤسس على تجيير الواضح لا المستهلك والمكرر على عكس المقطع التالي والذي يخالف شغل الإدلبي ويظهر في مواقع عدة "يذكر بيقينك شكي/ فأبكي عليك/ وأبكي عليّ" لكأن الرهان هنا يتنصل من اللغة العالية لصالح الإيقاع والرضى به كمخلص وفق عمر إدلبي في منحيين: اللغوي وخلق النفَس الجامع للمجموعة بكليتها، والمنحى الثاني الإيقاع الذي لولاه ما صبرنا على رجل يرصد العابر مفارقاً العرضي والبهلوانيات التي اعتاد بعضهم عليها في إبهار يخبو بعد القراءة الأولى، حسبنا أننا سنتعاطف مع الشاعر في مفتتح ديوانه "أرجوكم .. لا تضيئوا جوانب نصوص هذه الصحف.. فكروا بالسؤال" على أن هذا السؤال سيبقى مفتوحاً كجرح غائر ونحن نودع المجموعة بختامها: فماذا تخبئ/ يا موت/ للعابرين/ وراء الغياب الفسيح؟!".

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS