عمر أدلبي يرصد سيرة العابر...روز الزهراء تتابع
عمر أدلبي يرصد سيرة العابر | |||||
لولا الإيقاع ما صبرنا على رجل يرصد العابر مفارقاً العرضي والبهلوانيات التي اعتاد بعضهم عليها في إبهار يخبو بعد القراءة الأولى. | |||||
قلم: محمد المطرود | |||||
قصيدة الإدلبي "صحف العابر"، ليست جديدة من كونها المجموعة النص الواحد ولا المشتغلة على ثيمة واحدة، ولا من كونها المقسمة درامياً بالشكل الذي فيه تحايل على الطول وبالشكل الذي يضبط المتن ويعزز المتعة البصرية في تتبع العابر وتحولاته، ومن ثم الجمالية المحققة في هذه اللعبة وما تخلق من دهشة، الجمالية التي تروم الساكن والخبيء وتتعالق مع الصوفي والكوني في قضايا صغيرة لكن أبسط ما يقال عنها أنها القضية الجوهر، والسؤال، سؤال تحقق الشعر الشبيه بالسؤال الوجودي وعلاقته الكونية مع ماهيته، كيف ولماذا المؤسستين لقلق هو أس العلاقة الملتبسة واللعينة أيضاً، اللعينة تقود أبداً إلى المخالفة والشرور، شرور الذات، والفردانية العجيبة، بوجود أنا اللغة أو بالوجود المفترض الذي يحققه الشاعر هنا كفضاء وإحاطات وأثر شبيهة بالوقع الذي يتركه العابرفي تنقله في بيئة الإدلبي حاضنة السؤال: "منذ كم ماض سهوتُ/ ولم أفكر في ظلالي/ هل ما تزال تنوء/ من دور الممثل/ في خيال الظل/ أم هجرته/ وانصرفتْ لتشبهَ ذاتها/ أم أنها انكسرت كحالي؟" السؤال يتصاعد نجمه ليلف الشغل بطابعه، ويأتي مؤنسناً وكأنه الخارج من شاعريته إلى المعنى الصرف إذا جُرد من إيقاع لاينفي عنه تكوينه لذاته، بل يوطد علاقته المثالية القائمة على فهمه في ما يبيحه من الاشتغال في المساحة التي يبينها بإشراقاته وتوسعه حيث الوضوح, وضوح الدلالة، والسيمياء المعمول به في الإشارة وقوتها في نص صوفي "هل سيعودون/ أم أن هذا الوداع الأخير/ سيفرغ آخر نصف بكأس رهاني/ على موعد مشتهى؟" تكمن جدة الإدلبي في مزاوجته بين مفردتين إحداهما عميقة موغلة في منجز النص القديم، وربما من البديهي فعل ذلك أو تبيانه مع ثيمة أساساً تقتضي هذه اللغة المخلصة لسلف لغوي، فالعابر منجز تاريخي ولاهوتي "خفافاً يمر بنا العابرون/ الأسامي تمر/ ومملكة من أمانيِّ عمري/ وأعمارهم/ تركب النهر حتى فم الملح". يشتغل على المفردة بدراية إذ أن ما يتبدى للقارئ هو معرفة الشاعر بالمساحتين، في حين أبين المفردة الثانية موضوع المقارنة أو المزاوجة كما ذهبت وهي النص المتطلع إلى مصالحة مع نص يأخذ بالعرضي والتفصيل، وكأن النص الطويل المشتغل في تحصيل دهشته من مناخ يوجده، صار صعباً على متلق يطمح في قصيدة قصيرة وربما قصيرة جداً، ما نجده هنا في تصيد عمر إدلبي جملة مخاتلة وموهمة، بتقنية واستعراض القصيدة (الحديثة)، على ألا أعتبر هروب الشاعر هو تملص من هذر لغوي لا تفلت الطويلة منه عادة "سوف أقول لهم:/ المكان هنا ضيق/ فاتركوا وردكم/ ليس أكثر". ويقول "المكان هنا رطب/ كيف ينسون معطفي الصوف/ هل قلت معطفي الصوف/ يا للسذاجة/ كانون لم يأت بعد" المقتطف من البياض، الجزء الثالث من التقسيم الذي أرتآه الإدلبي بعد مقدمة الراوي لما كتبه العابر قبل العبور والجسر والعابرون ومن بعد البياض نقرأ كتاب الوصايا وأخيراً الغياب، وفي كل النص يحضر الإيقاع المراهن عليه كشكل مخفف من المبيَّت من الذهنية تجاه النص وطوله وقدرة التفلت من محاذيره وانغلاقاته الصعبة والمعجِّزة، وبالتالي الخوف المبيت الموازي عند المنتج واتفاقهما على المغامرة كليهما القارئ في تتبعه لسيرة العابر، وتحقق السير ذاتي المنصوص عليه،والمنتج في اختياره شكل سرده وخوفه الذي يحدوه إلى بدائل وحوامل توصل المقولة بأقل الخسائر وبأكثر الألق. "لم أنه بعد قصيدتي/ فاصنع على مهل سفينتي/ ودع الشراع/ فإن أحبابي لديّ" الثيمة الرئيس للاشتغال (العابر) تناصاً والعابر بؤرة التوتر والنقطة المحرقية سرداً بتجمع الذوات حولها،الذات العابر، والذات الشاعر، والذات اللغة، والذات الأب، والذات المهيمنة على روح النص من تعويمها للذوات جميعها، بحضور مساند قوي وفعال في التبئير السيري الموت وإذا أعتبرته ذاتاً أخرى أمكنني تلمس حال السؤال وتحققه باعتبار الموت جزء مشعرناً في إثارته لأسئلة وجودية لها صلة بالحياة والشعر، فالبعد الميتافيزيقي للموت متلاقح أصلاً مع النفس، معمل الفكرة، فكرة تنشيط الموت أو الخلود الذي يوجد به أو بمعزل عنه، وكأن النفس في هذه العلاقة الأزلية تغيِّب البعد في لا شعورها ليتخمر ويكون المكان الطبيعي لنمو القصيدة في حالتها الأولى البكر والذي سيكون الرائز الأهم في اختبار قدرتها على المداومة ببعدها الجواني والمياومة في ترسيخ الحدث الشعري واحتفائه بمقولات عظيمة وأخرى أقل حضوراً تتساندان للنهوض بالنص في شكله الأخير كأن تكون إحدى المقولات الموت بأي معنى، أو البيت بانزياحه، أو الأشخاص ذوي العلاقة البيولوجية المتينة بالمنتج والمنتج، الحبيبة، الأب، عناصر الروي في السيرة الذاهبة إلى غير معناها، إلى قتل المعقولية، أو الانتصار لها مواربة، وهذا أيضاً مكسب جمالي آخر: "هي رحلة وكفى،/ فقل للنور:/ كن فرساً لظلي/ كي تليق بما تشاء". ويقول: "كأن الحب حجتنا الوحيدة/ في جدارتنا/ بوقت آخر/ لنكمل المشوار!" هذا المقبوس يشي بالخسارة وكأن الحب بمقابلته بالموت ملاذ وحيد، الحياة في تفرعها، في وعيها الحدث، وما مقابلتها إلا للتدليل عليها في المعطى نفسه، المشرق البهي بمواجهة المعتم والمضلل. وجود الموت بمعناه الميكانيكي يحيل إلى الخسارات، والفقد الجارح كنصل سكين، لكن هنا هو ثيمة اشتغال يعيها المنتج بكسر التاء، يدورها، ليعيد إنتاجها ما يعني أن حياة ستصيب المفردة، فالعابر هو أساساً ميت والمخطوط الذي عثر عليه هو الذي قام بتهيئته لحياة أخرى أثرية متحالفة مع جزء منه مخطوطاته وقدرتها على تعييشه، القدرة التي أستطاع الإدلبي إدارتها، بحيث عيَّش العابر، وسار معه، ليتصيَّد سيرته مختبراً نفسه في اللحاق بالكائن/ الشبح، والمؤنسن أيضاً، ليكون شخصاً يشغل الفراغ، على الأقل الحيز الذي يبيحه الشاعر له، الفراغ الجمالي بتماهيه مع الكائن والممكن غير الميتافيزيقي "سرقت حقائب أعمارهم/ وهي مترعة بدموعي/ ولم تك حتى نبيلاً/ مع الزنبقات الصغيرة/ يا موت". الموت أعمى وقاس: "مروا سريعاً/ كأن يديك تشدان خطواتهم للغياب/ كأن يديك تدقان قلبي/ على حجر الحزن/ لكن من عادة القلب ألا يصير حطبا". تبشير ومخالفة للموت، والإتيان بالمقطعين للدلالة إلى ماعملت المجموعة لبلورة عنوانها في توزعهها إلى فصول متآزرة، ثم لتأت الوصايا إذ تقتضي العادة أن تكون الوصية مندرجة تحت فعل الأمر، هذا ما لم نره إلا في حالة واحدة من الوصايا السبع، والعدد المتناص مع الديني وارتباطه بحالة الخلق الأولى ما يعزز لغة الذهاب مع العابر إلى المنتهى، وما رشح من المناخ الصوفي في عموم النص إلا ترف افترضه الشغل العام للمجموعة، يخلو مفتتح الوصية من فعل الأمر باستثناء الوصية الثالثة "ترفق بالتراب/ وأنت تلثم خدّه/ بخطاك/هذي الأرض/ مركبك الأخير/ إلى قصور الشمس". على ألا ينسحب الأمر على بقية الوصايا كمفتتح، يحضر الأمر لكن في سياق تأتي به اللغة بسلاسة من خلال أداة موصلة وناجعة في تبيين الوصية وتظهيرها شعرياً، الراوي يصر على الحضور وكأن المسرود الشعري غير كاف، أو شهية القول تتفتح عند الراوي/ الشاعر/ العابر ليطل بين الحين والآخر مشعرناً دخوله، وكأن خللا ما سيفرضه الطول ويرهق المتلقي ولاسيما أن الآخر القارئ غير مغيب يتضح هذا من التقسيم الواعي لذاته من قبل الراوي. ما كتبه الراوي في تقديمه لقصيدة "البياض التي وجدها - على ذمته - بخط يد العابر فوق قبره، بعد عبوره: ومقدمة الراوي لقصيدة "كتاب الوصايا": "وما كتبه الراوي في آخر صفحة من مخطوطه". تنوس جملة عمر إدلبي بين العلو والدنو لغة وفهما لعلاقة المفردات فيما بينها أو ما يسمى بهندسة الجملة بصرياً ومن ثم نفسياً يقول: "بلاد كلما شابت/ تفيء إلى عذوبتها/ وتحمل من جديد صخر فتنتها/ كأن سقوطها ماكان". مقطع مشحون مؤسس على تجيير الواضح لا المستهلك والمكرر على عكس المقطع التالي والذي يخالف شغل الإدلبي ويظهر في مواقع عدة "يذكر بيقينك شكي/ فأبكي عليك/ وأبكي عليّ" لكأن الرهان هنا يتنصل من اللغة العالية لصالح الإيقاع والرضى به كمخلص وفق عمر إدلبي في منحيين: اللغوي وخلق النفَس الجامع للمجموعة بكليتها، والمنحى الثاني الإيقاع الذي لولاه ما صبرنا على رجل يرصد العابر مفارقاً العرضي والبهلوانيات التي اعتاد بعضهم عليها في إبهار يخبو بعد القراءة الأولى، حسبنا أننا سنتعاطف مع الشاعر في مفتتح ديوانه "أرجوكم .. لا تضيئوا جوانب نصوص هذه الصحف.. فكروا بالسؤال" على أن هذا السؤال سيبقى مفتوحاً كجرح غائر ونحن نودع المجموعة بختامها: فماذا تخبئ/ يا موت/ للعابرين/ وراء الغياب الفسيح؟!". |
0 Response to "عمر أدلبي يرصد سيرة العابر...روز الزهراء تتابع"
إرسال تعليق