قصص 'شرق بعيد': رعب الحاضر نذير لا مرئي يشق السطح


مجموعة محمد علوان جبر بركان صامت يدب اهتزازه في عروقنا دبيب الكائنات الخرافية المحبوسة تحت الأرض منذ بداية التاريخ الدامي للإنسان.




قلم: زيد الحلي

















مرحى لقلمك



حملت المجموعة القصصية الجديدة للقاص محمد علوان جبر اسم "شرق بعيد"، وهو عنوان لإحدى القصص التي ضمتها المجموعة وهي 16 قصة، اتسمت بتعدد الرؤى والأساليب، وعند انتهائي من قراءة هذه المجموعة وقفت عند قصة "المحطة" وقرينتها "النزهة". وربما كان وقوفي التأملي لهاتين القصتين جاء من إشارة وردت في التقديم الذي زيّن الصفحات الأولى للمجموعة، وهي بقلم القاص المبدع محمد خضير حيث أشار للقصتين آنفتي الذكر بشيء من الإعجاب كونهما عاليتي المضمون، بديعتي السرد، وتأتي قوتهما من تركيز الواقع فيهما وشدة التصاق الوعي بأحداثه. إن القصتين وثيقتان مهمتان على حاضرنا.

يقول القاص محمد خضير في تقديمه لهذه المجموعة إنه قرأها بتأثر وإعجاب .. إعجاب ممزوج بالخوف والوحشة اللذين يلفان كل سطر وكل كلمة فيها، قائلا: "هذه قراءتي وأنا قارئ عراقي قريب من الأحداث، فكيف إذا كانت القراءة لقارئ بعيد عنها، يسمعها ولا ينفعل بها، كقارئنا العربي أو العالمي المجهول، حتماً ستكون قراءته كشفاً من الكشوف المهمة".

تضمنت المجموعة قصة بعنوان "نزهة" وحسناً فعل القاص جبر أن نشر ما كتبه الدكتور حسين سرمك حول هذه القصة التي قال في بعض ما قاله بشأنها "إن نزهة محمد علوان جبر، جاءت كتسوية لمحنة وحل إبداعي يخفف من قلق الموت المشتعل في نفوسنا عبر حلم يقظة طويل، هي (أي قصة النزهة) ناقوس خطر يدقه القاص واقعياً، فكما يقول بسكال: إنني في حالة جهل تام بكل شيء فكل ما أعرفه هو إنني لا بد أن أموت يوماً ما، لكني أجهل كل الجهل هذا الموت الذي لا أستطيع تجنبه، فإن مصدر وأمل الدفع الخلاقة في عملية الموت هي الدهشة المرتبطة بتوقيته وشكله وأسبابه، والشعوب التي تتعامل مع الموت كلغز وجودي يثير دهشتها ويدفعها إلى الفعل لفك إسراره، أي الشعوب التي يشكل الموت في إدراكها معضلة مريرة، هي التي يشكل الموت مهمازا لإنضاج شخصيتها وتحفيزها على الخلق والإبداع، ولكن هذا الأمر يصبح كارثة حين يتحول الأمر في الواقع إلى (نزهة) مصنعة بأيدي الإنسان وشتان بين نزهة الواقع ونزهة الخيال ..".

أهدى المؤلف بعض قصصه إلى عدد من أصدقائه المثقفين في لفتة أخوانية جميلة، فقصة "شرق بعيد" كانت من نصيب الشاعر عبد لانكه الذي يقول عنه صاحب المجموعة "إنه اختفى في ظروف غامضة أوائل سبعينيات القرن الماضي ولم يعرف مصيره إلى يوما هذا". وقصة "توترات السيد ك" إلى حسين عجه، وقصة "واقع موت معلن" إلى عبدالعزيز جاسم، و"بورتريه" إلى محاسن الخطيب، و"الموت الجميل" إلى منذر الجبوري، و"سيدة الماء" إلى حسين سرمك.

تعكس قصص جبر رعب الحاضر الذي يفوق رعب "كورتيز" في رواية "قلب الظلام" لكونراد. هذه القصص لا تعكس الرعب الجاري على سطح الواقع المزري لعاصمتنا بغداد الحبيبة، بل تعكس النذير اللامرئي الذي يحاول شق السطح مثل بركان، وهو بركان صامت يدب اهتزازه في عروقنا دبيب الكائنات الخرافية المحبوسة تحت الأرض منذ بداية التاريخ الدامي للإنسان. تترقب القصص هذا الدبيب وتنصت لقدوم حممه من الأعماق وتواجهه بشجاعة ولا تهرب من كوابيسه الليلية وتهويلاته النهارية.

والقصص هي من وحي الواقع اليومي لمدينة بغداد الذي يغلي سطحها مثل مرجل. إنه واقع رهيب تناجيه القصص وتستدر رحمة قارئها على ضحاياه، بل تستفز وعيه كي يرى بأم عينيه ويتبحر ولا يهرب من التحديق في وجوه الضحايا، أقرب الضحايا إلى قلب الكاتب .. واقع أشبه بالحلم ، بل أبعد من الحلم. إنها وثائق الوعي المستبصر في نهار ساطع الشمس، شديد الحرارة.

وعندما انتهيت من قراءة المجموعة، أيقنت أن الكاتب محمد علوان جبر، حاول في قصصه وقد نجح في بعضها، إن يكتب موضوعات بحجم معاناة الوطن، وبحجم هوائه ومائه وأشجاره وينابيعه وفقرائه وأحراره، في ضوء ارتماء البلاغة بين يديه، كما العاشقة ترتمي بمن تحب وتهوى. فالقارئ لتك القصص، يلمس أنها تنبض بالحياة دون نهاية، وبالكينونة والحركة، دون أن تحيد عن مكانها، تلبس شتى الإشكال ولا تكف لحظة عن الحركة. وهي قصص لا تعرف التوقف، والسكون لديها لعنة وبالرغم من ذلك فهي ثابتة راسخة، حركتها بمقياس دقيق .. دقيق!

وأنا أتفق تماما مع ما قاله الكاتب الكبير محمد خضير عن المجموعة بأنها "مهمة وشديدة الدلالة على حاضرنا الذي يحجم كثير من القصاصين عن ولوج جحيمه وغربلة تفاصيله رغم أن هناك تفاصيل كثيرة لم تمتد إليها المجموعة واكتفت بالوقوف، أو الوصول، إلى حدود الحوادث الكبرى، المعروفة ولكن ما أكثر التفاصيل المدفونة في رماد هذا الحاضر. أهنئ القاص بحرارة ـ حرارة القراءة ـ على هذا الجهد الصادق على خلفية النار والحديد والدم والمشاعر السائرة على قدمين ثابتتين، الحياة للقلم الحر المكافح وبراعة الإنجاز".

وأضيف لقول المبدع خضير، أن قصص المجموعة، قصص تفكر وتتأمل، تحمل مغزاها في ذاتها. الناس جميعاً في باطنها وهي في باطن الجميع. هي تكافئ نفسها وتعاقب نفسها، تفرح بنفسها وتؤذي نفسها، إنها خشنة ووديعة، محبة ومخيفة ولا نهاية لقوتها، كل شيء حاضر في شخوصها، لا تعرف الماضي ولا المستقبل، ودائما الحاضر حياتها! ومن دنف الروح والأسى، ومن ترنّح الدموع في القلوب قبل المحاجر، والعبرات في الأوردة، والأطياف في الحرائق والأحلام في المصارع، جاءت شخوص الكاتب محمد علوان جبر، ويا لها من شخوص يلبسها صباح يجهجه ونوره يترقرق على آفاق الوطن الجريح!

أقول للمبدع محمد علوان جبر .. مرحى لقلمك!

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

0 Response to " "

إرسال تعليق