أغنية قصصية جديدة لخالد اليوسف



أصدر القاص والروائي خالد أحمد اليوسف مجموعته القصصية السابعة (يمسك بيدها.. ويغني) عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت.
المجموعة الواقعة في قرابة ستين صفحة من القطع المتوسط، والتي تجيء بعد ست مجموعات قصصية ورواية خلال ثلاثة عقود وزعها اليوسف إلى قسمين، قسم تحت مسمى قصص وأدرج تحته ستة عناوين قصصية وهي: أنثى نيلية، سواد ليل مختلف، منصور، رغبات، المفتول، الجائل، وهذه هي القصص القصيرة التي اعتبرها النقاد والدارسون بحسب تصنيفاتهم نموذجاً للقياس المتعارف عليه، ويقصد بذلك الطول وتكامل الحدث مع الشخصية والزمكانية والتقنية الفنية المطلوبة.
أما الجزء الثاني فقد أسماه اليوسف: "غناء" وهي القصص القصيرة جداً وعناوينها: متلازمات واندرجت تحته خمسة نصوص وهي الفرح، الدلال، الحب، الذكاء، المساواة، ثم نص القسط، ثم الأمكنة، ثم أناناس الذي اندرجت تحته أربعة عناوين وهي دلس، مذاق، قنوط، زيغ، ثم الأب، ثم تمدد، ثم متواليات واندرجت تحته ثلاثة عناوين وهي فيما بعد .. الحول، فيما بعد.. النهار، فيما بعد.. الليل، ثم النضج، ثم وراثة، ثم نشاز، ثم المدينة، ثم عبث، وتمثل جميع هذه النصوص تجربة اليوسف في كتابة القصة القصيرة جداً التي خاضها في مجموعته القصصية السابقة المنتهى رائحة الأنثى.
اليوسف طرح نصوصاً تهتم بالجمال البنائي والاقتصاد اللفظي والتركيب البلاغي الذي يرسم ملامح القصة القصيرة عنده، وتفضي إلى عوالم دقيقة للإنسان في مختلف مراحل عمره وتنوع بيئته وثقافته، وهي تلامس الأحاسيس والمشاعر والأفكار والآمال والطموحات والموروثات.

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

القص الغرائبي في 'أرض الحكايا'

تعمد سناء الشعلان في رصدها لشخصياتها وأفعالها إلى إقامة منظومة سردية تشتغل بقوة في منطقة الفانتازيا والخيال واستيطيقيا الحلم.

قلم: شاكر مجيد سيفو

تدوين الواقعة خارج نمطية الحياة

من جماليات اشتغال القص وحضرياته في أرض السرد وحقل الحكاية، تنوع أساليب الإبداع في الكتابة النصية، وحذاقة الشخصية الإبداعية، التي تشتغل في هذا المضمار على التخيل والحلم والاستذكار والتجربة وتراسل الأجناس الأدبية والفنية، يحرص القاص أو السارد على التقاط البؤر الحكائية من المناطق المجهولة والخفية واللامرئية، بانفتاحه على الرؤى الغرائبية والسحرية والأسطورية وحتى مناطق الخرافة في أنساقها الحكائية العميقة، وتشتغل هنا وظيفة الإدراك الحسي والجمالي مقابل وظيفة التخيل - حسب أرسطو - في المزيد من النفاذ إلى الأعماق والثراء والإثراء للداخل النصي الذي تتحاور من منحنياته أقطاب عديدة من السلوك الشخصي للشخصيات والسلوك المرئي والبصري في محيط الذاكرة المكانية، هذه الأقطاب التي تتجاذب وتتنافر في حركاتها بفعل الرؤية والرؤيا الحلم هي التي تتمشهد وتتحول بقوة الخيال الشخصي إلى فعالية حواس تؤسس للمشهد الحكائي بنيته الضاجة بأفعال الحياة.

أسوق هذه المقدمة للدخول إلى عوالم حكايا "أرض الحكايا" كتاب القاصة د. سناء الشعلان، يتلمس القارئ الحافات الحادة للنص الحكائي ابتداء من بنية العنونة الموسومة قصديا "أرض الحكايا" إلى منظوماتها القصصية للنصوص التي تنتقل من القوى الكامنة للنفس المثيرة بأحلامها ومقاصدها ورغباتها إلى مد جسورها الخفية مع العالم، وللذات الكاتبة التي تقدم نصها الحكائي في جمالية التراكم الفني والمعرفي للطبيعة البشرية لكل شخصية من شخوص الحكاية، تستهل القاصة سناء شعلان مجموعتها بالتصدير الموسوم - إهداء مسروق - تنبئ دلالة الإهداء عن اشتغال ذكي لذاكرة الحكي، فهي تصرح بالموشور الوقائعي "إلى سليل الأساطير والعمامات السوداء الذي سافر ولم يعد بعد أن كتب على عجل على بوابة صحرائها: كانت مدينة القحط طيلة سنوات ثلاث مدينة لا تطاق، كنت أتمنى الخلاص منها،.....الخ". ترشح عن قيمة الإهداء محتوى الوثيقة بالإشارة إلى الفعل "كتبَ" الذي تتماهى معه أفعال القص حكي بدلالة أن النص يبدأ من منطقة مُتأرَّخة في الوجود، حيث الأفعال تأخذ مسارها في حركتها مع الأشياء التي تتحرك في مستوى من تأويل الوجود أو لفهم الوجود حسب - هايدجر -.

القاصة سناء شعلان تعمل على تدوين الواقعة خارج نمطية الحياة، فهي حريصة في تناولها لموضوعاتها وعوالم شخصوصها، كما ترى من فهومات وآليات اشتغالاتها في كتابها التنظيري الجاد الموسوم "السرد الغرائبي والعجائبي" يلتفت القارئ هنا إلى سؤال الإبداع في تراسل الأجناس الأدبية والفنية، إلى سؤال"الفنية" الذي يُمهّد لذيوع الرمز والتشكيل بعيدا عن الأداء الخطابي، والجنوح إلى الإيماء والتلميح عوضا عن البوح والتصريح، هذا حسب تقديم الدكتور إبراهيم خليل الكاتب، فالقاصة سناء شعلان تهتم اهتماما استثنائيا وجدليا وجماليا بالسرد الغرائبي في "أرض الحكايا" لنقل النصوص من زاوية النظر الواحدة، إلى فضاءات مفتوحة غير مألوفة. أو ينفتح العمل القصصي أو النص الحكائي بالعودة إلى بنية العنونة، إلى منظومة دلالات وإشارات ورموز ودوال وإحالات تفتح لها نوافذ ضاجّة في السرد بالشكل الذي يقع على توصيفات التكوينية والبنيوية والتفكيكية.

وترى القاصة في رصدها لشخصياتها وأفعالها إلى إقامة منظومة سردية تشتغل بقوة في منطقة الفانتازيا والخيال واستيطيقيا الحلم: إذ تستفيد من قراءاتها لنظريات النقد العربي والغربي معا.

تلاحق القاصة سيرة شخوصها في انتقالاتهم من الذات إلى الوجود ومن العالم إلى الذات في سرودها عبر شبكة دلالات ترشح عنها أنساق الدهشة والصدمة والخلق وايتداع الخوارق وكشوفات الحلم وسوريالية اللغة، إذ تُُحمِّل شخصيات حكاياتها علامات الشك والحيرة والغيرة والفزع ويعود هذا الاشتغال إلى قراءاتها الذكية لأرسطو و فورستر و تودوروف و باختين و رولان بارت و فتاح كيلطو وصلاح فضل وفاضل ثامر ومنى محمد محيلان وشعيب حليفي ويوسف الشاروني وطراد الكبيسي وغيرهم.

تجتهد القاصة في اشتغالاتها الذكية على اهتمامها الشديد بتفكيك الحادثة النصية إلى مقتربات تحتشد بالمواقف الحياتية في تأملها الشديد لحياة الشخوص، إذ تستجمع صورة الآخر في تدبّرها لما تجنح إليه وتعمل على ترسيخهِ، في تقنيات الحذف والإضمار والأستباق والاستشراق، حسب د. إبراهيم خليل.

يتضمن نصّ القاصة - بنص اللذة - بالعودة إلى فهومات رولان بارت فالحادثة هي الشغف اللذيذ باللغة، هي الولع الكبير بفكرة عشق ولذة الأدب في هذا البذخ اللفظي في النص، إذ تبذل القاصة جهدها الكبير في حقّ الإشباع لغرائز الشخصيات، حتى الموت الذي يتحدث عنه فرويد: "إذ لا شيء مجانيا غير الموت" إذ تقع هذه الرؤى ضمن "متخيلات اللغة" ونعني بذلك الكلمة التي هي الجوهر، والسحر لترسيخ المتخيّل النصّي في الحكاية وأروحتها الأسطورية.

تتسم حكايات "أرض الحكايا" بالغرائبية في أعلى توصيفاتها النظرية الرؤيوية والجمالية، والغرائبية التي نتحدث عنها هنا هي: الغرائبية هي أسلوب مخيل يعمد فيه المؤلف إلى معاينة الواقع بعين مغايرة ترى ما لا نرى لتشكّل صياغات نصية لوقائع مختلفة سِمتُها التغاير المبني على مفارق العقل والواقع والدخول في فضاءات تتعارض ومعيارية التقنين الحياتي، الغرائبية وبحسب "باشلار" تعيد إلى الإنسان حس الدهشة، فالغرائبية التي تشتغل عليها حكايا سناء شعلان تبدأ من العنونات: "سداسية الحرمان ـ أكاذيب البحر - الباب المفتوح - ملك القلوب - الطيران على ارتفاع 1000 دقة قلب - دقلة النور - أرض الحكايا - الذي سقط من السماء - مدينة الاحلام - البلورة ــ الشيطان يبكي....".

في حكايتها الأولى تتصل بشخصية "المتوحش" تستغرق وتغرق القاصة في وصفه بحالات تراكمية عديدة "فهو يعيش متأبداً متوحشاً على هذه الجزيرة الجرداء القاحلة لتصل به: من قال إنه يفكر أصلاً في من يكون؟ والى أيِّ الأزمان والعصور ينتمي، ولا يشعر بملل، لا يعرف النفور من التكرار والد لقد الف كل الروائح وكل الأصوات، غدا صديق حيوان من حيوانات الجزيرة".

هذا مجتزء من حكايتها "سداسية الحرمان" إذ تكشف عن قدرتها الفائقة في اصطياد اللحظة الحرجة وتنصيصها على جسد الحكاية واجتراح طراز من "القص حكي" لتحرير الأوهام الكبيرة التي رافقت الشخصية المحورية إلى أن أشبعتها أحاسيس فنتازية قد لا ترافق الإنسان في صحوهِ، لذا نقرأ ما بين السطور غرائبية الشخصية في مجمل أفعالها الغرائبية والسحرية في حكايتها الثانية "الخصيّ" يعني الاستهلال إلى مرجعية حكائية تبدأ بالأخبار عن مشهدية المكان إذ يفعني هذا الصف إلى ولع القاصة بأحوال الوصف الوصف الأدبي العالي الذي يشتغل على لغة القص الحداثي بسلطة الذات المبدعة الساردة وملاحقة توصيفات المكان وعلاقة الشخصيات به وفيما بينهم، شخصية – الخصيّ – تعيد القارئ إلى فوران الذاكرة الجمعية بالانشغال بمحمولات الجسد الذكوري ورهابه "كثيرا ما سمع خصيان القصر يتنذرون بوصف نساء جميلاتٍ ويتبارون في لحق التمنيات الجميلة عن جدران مخيلاتهم، يتخيلون أنفسهم بأعضاء كبيرة نشطة، تستبيح كل جميلات القصر، ثم ينخرطون بمزاج يشككون فيه في تصنيفهم الجنسي، ليروا أنفسهم في النهاية مسخا حزيناً لرجل وامرأة".

تنهض المفارقة الأسلوبية في رصف منظومة التضادات في منطوق الحكاية، فمن جهة ترى الذات الساردة احتفائية الشخصية في تندّرها على النساء الجميلات وتشفيها لهنّ، ترى الشخصية المحورية سعادتها في هذا التلاصف السردي الحكائي في طبقته العليا الظاهرة، فيما ترى القاصة الجانب الثاني في الطبقة الطافية من الحكاية، وهي انكسار وانسحاق واحباط الشخصية "الخصي" وامثالهِ في شكوكهم في تصنيفهم الجنسي وعطل اعضائهم عن ممارسة أفعالها وتنتهي أحداث الحكاية بفشل الخصي أقام جبروت السلطان إذ يعلق رأسه على بوابة القصر، انتقاما من خيانته وتأديبا لغيره من "الخصيان" إن الدخول إلى عوالم - ارض الحكايا - لا يمكن الإفلات منها دون إصابة القارئ بالمسيء أو الجنون بقدر تعالقها الشديد بهذه السحرية الضاجّة بالغرابة والسحر والجنون واسطر الحدث الحكائي المثقل بالإشارات الصريحة الحلمية الفنتازية والرومانتيكية المرقشة بالعلامة السوريالية - أحياناً - في عوالم الحكايا، ثمة ضجيج كوني تتلاطم أمواجه بهذا الوصف السردي الذي لا تكل عنه القاصة الوصف المتناغم مع سينمائية اللغة والجملة والمركب التكويني للحدث الحكائي هو نتاج عدسات السرد في غرائبيته، عدسات مقعرة ومحدبة ولاصقة ومتضادة ومتوازية، عدسات تختلط فيها أفكار السارد في منطقة السرد تتشاكل فيما بينها لتكوّن عالماً متداخلاً من الرؤى المتغايرة في الزمان والمكان عالم يجمع فيه النسق الحكائي مسروداته التخيلية التي تكشف عن تسيّد المخيال الشخصي للذات القاصة البارعة في كشوفاتها وصياغاتها السردية المعاصرة.

في حكايتها "أكاذيب البحر" تتحقق عناصر الحكي في الوصف المتماهي مع الحال القصصي والمغامرة الجمالية التي تدفع بها القاصة إلى إشغال طاقة اللعب في الموقعة الحكائية، فلو أمعنا النظر والرؤية في البؤر الحكائية سنجد اتساع مديات الرؤية والتقاط مستطيلات البؤر القصصية من التفاعل والتجانس واللاتجانس على نحوٍ تدفع بهذه المعادلة القاصة في دفعها للشخصية المحورية إلى استدعاء الأحداث وتشظّيها، وضخها الوصفي الجميل الممتلئ: "البحر مليء بالحكايا، ستحبين حكاياه"، "البحر مليء بالأكاذيب، ستحب أكاذيبه"، "البحر يزخر بحكايا من انتحروا لأجلهِ"، "البحر يزخر بحكايا من قتلهم" وعلى لسان الراوي أو السارد يقول: "إني أحب البحر إلى حدّ إني لأجله ضحيت بالعمامة السوداء". قصة "أكاذيب البحر" إلى اسلوب الحوار ماذا عني؟ سأل بابتسامة هادئة – "أنت أكذوبة البحر الكبرى" - "أي بحر؟!" "بحر قلبي" "إذن انا أكذوبة؟!" - دعنا من الأكاذيب، عندي لك مفاجأة - "وما هي هذه المفاجأة؟" - "خمن...".

تؤول بنية الحوار إلى منظومة تساؤلات تتخفى في طبقات من المعنى في سيل الألفاظ التي تجترح لها أنظمة حكائية تقول ما تراه الشخصية المحورية وعلاقتها بالعالم المحيط بها إلى أن تنتهي إلى الإقرار بالجمال الذي هو المعادل الموضوعي للحكاية وأنساقها الكلية: "ولكنك قلت لي انك صياد"، "متى كان ذلك؟!" – "إلي ساعة أكذوبة الجزر" – "كلّ ما يقال في زمن الجزر هو كذب" – "ولكنني اعشقك!!" – "وأنا أعشقك، اقسم على ذلك".

وتتشظى عنونات أكاذيب البحر إلى أكاذيب محتويات البحر وكائناته وعناصره الجوّانية الخفية، وتمتد العنوان في التشظي إلى أكذوبة اللؤلؤ، وأكذوبة الأمواج وأكذوبة المد والمرجان وأكذوبة الأصداف.

تقول القاصة والكاتبة سناء شعلان في دراستها للقصة القصيرة في الأردن، المنشورة في كتابها "السرد الغرائبي والعجائبي" وان كان السرد العجائبي قد وهب الحياة من العدم لحجر، فهو قادر على إبقاء المقتولين أحياء وهم أموات، في مداخلة عميقة دراسة لقصة "لن يصدقه أحد" للكاتب محمود الريماوي هكذا تشتغل القاصة سناء شعلان في أسطرة حكاياتها في كتابها "ارض الحكايا" إذ تحقق للقارئ ما يراه لذيذا، كأنه يرى ماضيه وأوهامه وتاريخه في سطر ما من سطور أية حكاية من حكاياها، تتوزع همومه وتنبثّ ذكرياته بين السّرد الغرائبي والعجائبي على امتداد أطوار حياته، حتّى لتغدو الحكاية بنية سلوكية تتوازى مع النزوع الفردي لتأصيل الحدث الحكائي.

إن كتاب "أرض الحكايا" يتكثّف في سلسلة حكايات تكتنز بطاقة التلغيز والترميز والغموض الذي يُشهد حساسيته الجديدة في ميتا سحرية اللغة والمعنى ويقترح لسيميائية تؤول إلى مقتربات جمالية عالية في اللعب على وتر المغامرة الجمالية وتعددية البنى النصية، في المغاورة مع مصورات الحكي والانتقال من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر في تداخل غريب مستخدمة آليات تصوير سينمائية حاذقة تكشف أفعال الشخصية في حركاتها الاحتفالية، وتلاحق الدوائر الراشحة عن حركة الكاميرا وعدستها المكبرة لمستويات العمق الأسطوري، وقد تحقق كل هذا في معظم قصص الكتاب "أرض الحكايا".

شاكر مجيد سيفو ـ شاعر وكاتب من العراق

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

ديوان الرُّندي فضاء للقاء الثقافات

د. حياة قارة تتصدى لدراسة كل أشعار أبي البقاء في ديوانه الرفيع الذي يرسم بصدق شخصيته وخصاله ومزاياه.

لكل شيء إذا ما تم نقصان

يقول الدكتور عبدالهادي التازي، عضو أكاديمية المملكة المغربية، إن أبا البقاء الرندي، يعترض طريقنا ونحن نتحدث عن الحياة الأدبية في الأندلس، وعن دور الشعر في تخليد الأحداث التاريخية الكبرى لشبه الجزيرة، ودور الشعر في تسجيل المشاعر الإنسانية.

وقد عرف أبوالبقاء الرندي من خلال قصيدته الرائعة التي يقول في مطلعها:

لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ ** فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ!

والتي كانت محل اهتمام المستعربين والمستشرقين الذين كانوا يتتبعون خطوات رجالات الأندلس، وخاصة أبو البقاء الذي أثار المشاعر وحرك من عواطف الناس بنونيته التي صرفتنا عن بقية عطاءاته وكأنه لم يمتلك سواها، فلم نكلف أنفسنا عناء البحث في جرابه.

ويشير التازي إلى ما قامت به د. حياة قارة التي تصدت لدراسة كل أشعار أبي البقاء في ديوانه الرفيع الذي كان يرسم بصدق شخصيته وخصاله ومزاياه، "فحرثته حرثا، وأراحتنا من تتبع الكثير من المصادر والمراجع التي حاولت أن تقربنا من هذه الشاعر الفذ". بل "اقتحمت قارة قصر الحمراء لتبحث بين زواياه عما يعبر عن حضور أبي البقاء، بين منعرجاته ومنعطفاته، واستلهامها مما نقش على جدران الفن ومسالكه".

ويؤكد د. التازي على أن دراسة أبي البقاء وديوانه وآثاره سيجدد النظرة لكل الذين اهتموا بتاريخ الأندلس وما يتصل بها من آثار وأخبار.

أما الباحثة د. حياة قارة فقد أبدت فرحتها الكبيرة بالعثور على قطعة مخطوطة من ديوان أبي الطيب صالح بن شريف الرندي، تضمها مُجَلَّدَة حَفيلة توجد في خزانة خاصة ولا سيما إذا كانت لشاعر أندلسي كبير طبقت شهرته الآفاق بقصيدته النونية المؤثرة في رثاء الأندلس.

وتوضح الباحثة المغربية أن ديوان الرندي الذي تقدمه سلسلة "من تراثنا الشعري" التي يصدرها "مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية" (316 صفحة) يحمل في طياته سؤال الكتابة الشعرية وسلطتها في التعبير عن فضائها وزمانها الخاصين بها، حيث يشكل المكان كفضاءٍ وعيا بالجمال وإحساسا مفرطا بالشعرية.

وتشير الباحثة إلى أن الأماكن في هذا الديوان تغدو بنية ثقافية، بقدر ما هي فضاء للقاء الثقافات من أصول وأعراق مختلفة، يتردد صداها في أعماق الشاعر وبداخله، فتتحول شعرية المكان إلى مرآة عاطفية لذاكرته وذكرياته، ترسم بقايا الماضي المستحضرة عبر الكلمة والصورة الشعرية، تتسلل من خلالها سيرته الذاتية المرتبطة بالأماكن والأشخاص والأشياء.

لقد درست د. حياة قارة سيرة من الزمن الغرناطي بين إيقاع المكان وصوت التجربة، وتحدثت عن ربوع "رندة" وأصدائها في شعر أبي البقاء الرندي المتوفي 684 هـ ـ 1285، كما درست ثقافة الشاعر وشيوخه من خلال الرحلة داخل الأندلس، وتوقفت عند ازدهار العلوم وفضاء التواصل الثقافي. وأشارت إلى الشعر في العصر الغرناطي وهرمية التشابه والاختلاف، وتحدثت عن قصر الحمراء الذي يتمتع بخصوصية ثقافية وتناغم وجداني، وعنه يقول أبوالبقاء الرندي:

كم زرتُه فرأيتُ الملكَ متئدا ** والجودَ مُطَّردا والمجدَ منتظما

ثم انصرفتُ وكفِّي من مواهبهِ ** مبسوطةً أملا مملوءةً نغما

ثم تعدد تصانيف الرجل ما بين الشعر والنثر، فتذكر من تصانيفه إلى جانب ديوانه الشعري: روض الأنس ونزهة النفس، المقامات، المقربة (أرجوزة في الفرائض)، الوافي في نظم القوافي، وجزء على حديث جبريل. وتتوقف عند مصادر شعر ونثر أبي الطيب الرندي، ومنها المصادر المفقودة، والمصادر الأندلسية، والمصادر المغربية، والمصادر المشرقية.

ثم تبدأ من الصفحة 103 من الكتاب قصائد ديوان أبوالطيب الرندي مرتبا على حروف المعجم، يليها بعض آثاره النثرية.

يقول أبوالبقاء الرندي في العقل والتغرب:

ما أحسنَ العقلَ وآثارَهُ ** لو لازمَ الإنسانُ إيثارَهُ

يصونُ بالعقلِ الفتَى نفسَهُ ** كما يصونُ الحرُّ أسرارَهُ

لا سِيَّما إن كانَ في غُرْبةٍ ** يحتاجُ أن يعرفَ مقدارَهُ

ويقول في قصيدة أخرى من الخفيف:

عَلِّلاني بذكْرِ تلكَ الليالي ** وعهودٍ عهدتُها كاللآلي

لستُ أنسى للحبِّ ليلةَ أُنْسٍ ** صالَ فيها على النَّوَى بالوصالِ

غفلَ الدهرُ والرقيبُ وَبِتْنا ** فَعَجِبنا من اتِّفاقِ المُحالِ

ضمَّنا ضمَّة الوشاحِ عناقٌ ** بيمينٍ معقُودةٍ بشِمالِ

فَبَردْتُ الحَشَا بلثْمِ بَرُودٍ ** لم يزلْ بي حتَّى خَبَا لي خَبَالي

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS