ديوان الرُّندي فضاء للقاء الثقافات

د. حياة قارة تتصدى لدراسة كل أشعار أبي البقاء في ديوانه الرفيع الذي يرسم بصدق شخصيته وخصاله ومزاياه.

لكل شيء إذا ما تم نقصان

يقول الدكتور عبدالهادي التازي، عضو أكاديمية المملكة المغربية، إن أبا البقاء الرندي، يعترض طريقنا ونحن نتحدث عن الحياة الأدبية في الأندلس، وعن دور الشعر في تخليد الأحداث التاريخية الكبرى لشبه الجزيرة، ودور الشعر في تسجيل المشاعر الإنسانية.

وقد عرف أبوالبقاء الرندي من خلال قصيدته الرائعة التي يقول في مطلعها:

لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ ** فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ!

والتي كانت محل اهتمام المستعربين والمستشرقين الذين كانوا يتتبعون خطوات رجالات الأندلس، وخاصة أبو البقاء الذي أثار المشاعر وحرك من عواطف الناس بنونيته التي صرفتنا عن بقية عطاءاته وكأنه لم يمتلك سواها، فلم نكلف أنفسنا عناء البحث في جرابه.

ويشير التازي إلى ما قامت به د. حياة قارة التي تصدت لدراسة كل أشعار أبي البقاء في ديوانه الرفيع الذي كان يرسم بصدق شخصيته وخصاله ومزاياه، "فحرثته حرثا، وأراحتنا من تتبع الكثير من المصادر والمراجع التي حاولت أن تقربنا من هذه الشاعر الفذ". بل "اقتحمت قارة قصر الحمراء لتبحث بين زواياه عما يعبر عن حضور أبي البقاء، بين منعرجاته ومنعطفاته، واستلهامها مما نقش على جدران الفن ومسالكه".

ويؤكد د. التازي على أن دراسة أبي البقاء وديوانه وآثاره سيجدد النظرة لكل الذين اهتموا بتاريخ الأندلس وما يتصل بها من آثار وأخبار.

أما الباحثة د. حياة قارة فقد أبدت فرحتها الكبيرة بالعثور على قطعة مخطوطة من ديوان أبي الطيب صالح بن شريف الرندي، تضمها مُجَلَّدَة حَفيلة توجد في خزانة خاصة ولا سيما إذا كانت لشاعر أندلسي كبير طبقت شهرته الآفاق بقصيدته النونية المؤثرة في رثاء الأندلس.

وتوضح الباحثة المغربية أن ديوان الرندي الذي تقدمه سلسلة "من تراثنا الشعري" التي يصدرها "مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية" (316 صفحة) يحمل في طياته سؤال الكتابة الشعرية وسلطتها في التعبير عن فضائها وزمانها الخاصين بها، حيث يشكل المكان كفضاءٍ وعيا بالجمال وإحساسا مفرطا بالشعرية.

وتشير الباحثة إلى أن الأماكن في هذا الديوان تغدو بنية ثقافية، بقدر ما هي فضاء للقاء الثقافات من أصول وأعراق مختلفة، يتردد صداها في أعماق الشاعر وبداخله، فتتحول شعرية المكان إلى مرآة عاطفية لذاكرته وذكرياته، ترسم بقايا الماضي المستحضرة عبر الكلمة والصورة الشعرية، تتسلل من خلالها سيرته الذاتية المرتبطة بالأماكن والأشخاص والأشياء.

لقد درست د. حياة قارة سيرة من الزمن الغرناطي بين إيقاع المكان وصوت التجربة، وتحدثت عن ربوع "رندة" وأصدائها في شعر أبي البقاء الرندي المتوفي 684 هـ ـ 1285، كما درست ثقافة الشاعر وشيوخه من خلال الرحلة داخل الأندلس، وتوقفت عند ازدهار العلوم وفضاء التواصل الثقافي. وأشارت إلى الشعر في العصر الغرناطي وهرمية التشابه والاختلاف، وتحدثت عن قصر الحمراء الذي يتمتع بخصوصية ثقافية وتناغم وجداني، وعنه يقول أبوالبقاء الرندي:

كم زرتُه فرأيتُ الملكَ متئدا ** والجودَ مُطَّردا والمجدَ منتظما

ثم انصرفتُ وكفِّي من مواهبهِ ** مبسوطةً أملا مملوءةً نغما

ثم تعدد تصانيف الرجل ما بين الشعر والنثر، فتذكر من تصانيفه إلى جانب ديوانه الشعري: روض الأنس ونزهة النفس، المقامات، المقربة (أرجوزة في الفرائض)، الوافي في نظم القوافي، وجزء على حديث جبريل. وتتوقف عند مصادر شعر ونثر أبي الطيب الرندي، ومنها المصادر المفقودة، والمصادر الأندلسية، والمصادر المغربية، والمصادر المشرقية.

ثم تبدأ من الصفحة 103 من الكتاب قصائد ديوان أبوالطيب الرندي مرتبا على حروف المعجم، يليها بعض آثاره النثرية.

يقول أبوالبقاء الرندي في العقل والتغرب:

ما أحسنَ العقلَ وآثارَهُ ** لو لازمَ الإنسانُ إيثارَهُ

يصونُ بالعقلِ الفتَى نفسَهُ ** كما يصونُ الحرُّ أسرارَهُ

لا سِيَّما إن كانَ في غُرْبةٍ ** يحتاجُ أن يعرفَ مقدارَهُ

ويقول في قصيدة أخرى من الخفيف:

عَلِّلاني بذكْرِ تلكَ الليالي ** وعهودٍ عهدتُها كاللآلي

لستُ أنسى للحبِّ ليلةَ أُنْسٍ ** صالَ فيها على النَّوَى بالوصالِ

غفلَ الدهرُ والرقيبُ وَبِتْنا ** فَعَجِبنا من اتِّفاقِ المُحالِ

ضمَّنا ضمَّة الوشاحِ عناقٌ ** بيمينٍ معقُودةٍ بشِمالِ

فَبَردْتُ الحَشَا بلثْمِ بَرُودٍ ** لم يزلْ بي حتَّى خَبَا لي خَبَالي

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

0 Response to "ديوان الرُّندي فضاء للقاء الثقافات"

إرسال تعليق