'يا محني ديل العصفورة' رواية الماضي الجميل والحاضر المتناقض

رواية الشربيني المهندس تثير العديد من التساؤلات الجوهرية وقد أفرغ فيها الكاتب حشدا هائلا من الحكايا والأشخاص.

بقلم: سعيد سالم

هندسة فنية

هذه رواية مترعة بأشجان الماضي الجميل، متداخلا مع حاضر متناقض معه إلى الحد الأقصى حلما وواقعا. الحلم الآني مفقود تماما، فالخيبة واليأس والإحباط يمثلون الشعور العام السائد بين الشعب، أما الواقع فهو شديد الانحطاط، ضاعت فيه كل الإنجازات الوطنية فصارت كل التحولات إلى الأسوأ.

الرواية تثير العديد من التساؤلات الجوهرية الملحة على واقعنا المعاصر، ولهذا فقد أفرغ فيها الكاتب حشدا هائلا من الحكايا والأشخاص التي يبدو أنه كانت مزدحمة في عقله، ضاغطة عليه بشدة، فإذا به يسكبها على الورق بنفس الازدحام في الأحداث وعدد الشخصيات، فضلا عن سرعة إيقاعها، التي وإن كانت تحسب للكاتب إلا أنها حرمتنا من القدرة على التركيز وسهولة المتابعة والاستمتاع.

تدور أحداث الرواية على محاور ثلاثة متداخلة، بتكنيك يمزج بين السرد وتيار اللاوعي من جهة، وبين الماضي والحاضر من جهة أخرى. وقد شارك البطل شوقي السكري في أحداثها جميعا مشاركة إيجابية فعالة.

المحور الأول هو حرب أكتوبر التي انتهت بنصر مؤكد على المستوى العام، ونصر مؤكد آخر على مستوى الرواية، والبطل بنجاحه مع مجموعته في العودة بالأسرى الإسرائيليين رغم إصابته واستشهاد بعض زملائه. وهذا المحور يمثل الجانب المضيء في الرواية.

ويمثل المحور الثاني الانتكاسة الخطيرة للوطن، ببيع مصانع القطاع العام الناجحة لمحدثي النعمة من رجال الأعمال الجدد أمثال كابوريا والعرباوي ومن هم على شاكلتهم، وكان تشبيه الكاتب لهذه الانتكاسة الاقتصادية الاجتماعية بحادث الثغرة في حرب أكتوبر تشبيها ذكيا مبتكرا، لما بين الواقعتين المؤسفتين من تشابه شديد من حيث ما ترتب عليهما من خسائر فادحة للوطن.

من الواضح أن الكاتب على وعي اقتصادي وسياسي بمدى بشاعة جريمة الخصخصة التي شابها الفساد من بدايتها حتى نهايتها، إذ أسندت الدراسات السابقة للبيع إلى بيوت خبرة أجنبية، واستبعدت مراكز الأبحاث الأكاديمية بكلية الهندسة، والمكاتب الاستشارية المصرية ذات الخبرة الطويلة في نفس المجال.

لقد فاحت رائحة الفساد لحظة أن تحالف المستثمرون الجدد مع المسئولين الذين باعوا ضمائرهم، ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا إغراء وإغواء الشرفاء من الموظفين حتى تخلو لهم ساحة السلب والنهب من التكية التي يعتقدون لدرجة الإيمان بملكيتهم الخاصة لها.

أما المحور الثالث فهو محور جمالي بالدرجة الأولى لأنه يمثل موهبة شوقي السكري كأديب يؤلف القصص والروايات ويشارك في الندوات الأدبية، مدفوعا بحسه الفني من جهة، وبوطنيته الجياشة من جهة اخرى، للتعبير عن آمال شعبه وآلامه، فضلا عن كون الكتابة في حد ذاتها فعل تنفيسي بالنسبة له، يفرغ فيه طاقات الشعور بالقهر والظلم والانضغاط، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى التجمعات الشعبية الرافضة لهذا القهر والتي تواجه في مهد كل تحرك لها بآلاف من جنود الأمن المركزي المدججة بالسلاح والعربات المدرعة التي يتصور من يراها أن جنود الشرطة متوجهين إلى معركة حربية لقتال العدو. كما تعبر الكتابة عن رفضه لضياع حقوق العمال ووأد ابتكاراتهم الفنية الناجحة، أو تحويل ثمارها إلى جيوب المنتفعين من ثغرة الخصخصة بيعا وتأجيرا أو غلقا وتصفية.

ويتساءل البطل:

- لماذا لا ينسى الناس النكسة رغم النصر الذي حققناه يوما؟

ويتساءل مرة أخرى:

- ماذا حدث للجهاز الذهني للإنسان المصري، ليعجز عن تفهم ما يجري بالعالم من حوله؟ وهل لم يعد جهازه العصبي - مع تزايد الأزمات المحيطة به - متلائما مع واقعنا، أم لا يزال في انتظار العفريت؟!

ويواصل الشربيني المهندس حشد أحداثه وشخصياته التي لا حصر لها والدفع بها في تداخل فني جميل بين المحاور الثلاثة. وأكاد أقول إن هذا الزخم الشديد في الأحداث والأسماء كان يكفي لكتابة روايات ثلاث لا رواية واحدة، حتى أنه بدافع من محبته الشديدة لكتاب الاسكندرية يزج بأسماء رواياتهم وقصصهم في سياق الحكي بشكل لا يفيد القارىء العادي الذى لم يقرأ هذه الأعمال، أما الكلمة التي قدم بها للرواية، فأرى أنه لم يكن لها داع على الإطلاق، فالرواية عبرت تماما عما أراد قوله دونما حاجة إلى مقدمات.

ولا يبقى في النهاية إلا أن أقول إن الشربينى المهندس - وهو يعمل فعلا مهندسا - قد أجاد البناء الهندسي الفني للرواية، ولكنه كان بمقدوره أن يضيف إلى إعجابنا بفنه قدرا من المتعة والتأمل لو خفَّف من ضغط الزحام بالرواية أحداثا وأشخاصا.

سعيد سالم ـ روائي مصري

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

0 Response to "'يا محني ديل العصفورة' رواية الماضي الجميل والحاضر المتناقض"

إرسال تعليق