سبع عشرة رواية وتأويلا

نذير جعفر يؤكد في قراءته النظرية والتطبيقية على أنّ كل قراءة لنصّ روائي لا تعدو في النهاية أن تكون تأويلاً.

كتب ـ محمد الحمامصي

حدود التأويل

يقرأ الناقد والروائي السوري نذير جعفر في كتابه "الرواية والتأويل" الصادر عن "نون 4" في حلب، سبع عشرة قراءة تطبيقية لنتاج عدد من الروائيين السوريين والعرب والأجانب، وهم: هاني الراهب، خيري الذهبي، نبيل سليمان، فواز حداد، وليد إخلاصي، عبدالكريم ناصيف، الطيب صالح، سحر خليفة، علي أحمد باكثير، محمد المنسي قنديل، طالب الرفاعي، جمال ناجي، جورج أورويل، توني موريسون، مارغريت دوراس، رابليه، تحسين يوجل، ولكنه قبل ذلك يناقش الإطار النظري لمفهوم التأويل، وعلاقة النّص بالقارئ، وتعدّد القراءات، عند كلّ من إمبرتو إيكو، وإيزر ودريدا، وسواهما.

ففي مدخله للكتاب يقرأ المؤلف مرجعيات التأويل وحدوده حيث رأى أن تقليب معنى "التأويل" وطيفه الدّلالي في المعاجم العربية، وكتب التفسير والقراءات، يدلّ على نقاط التقاء عدّة بينه، وما تداولته المدارس والاتجاهات النقدية الحديثة بخصوصه، فالتأويل لغةً: التفسير، وأوّلَ الكلام: فسّره، وقدّره، وتحرّاه، ووسّعه، والتأويل اصطلاحاً: تفسير الكلام، وبيان معناه، سواءً أوافق ظاهره أم خالفه، وهناك من يرى التأويل والتفسير بمعنى واحد فلا يفرّق بينهما، وهناك من يفرّق بينهما، فيرى أن التفسير يعني الكشف والبيان، وهو يرتبط بالعقل والنقل "الظاهر"، أمّا التأويل فيرتبط بالدراية والاستنباط "الباطن"، أو بالبصيرة كما عند المتصوّفة، ويعني ترجيح أحد الاحتمالات بالاجتهاد والدليل بدون جزم.

وأضاف "عند هذا المعنى الموروث للتأويل، الذي يحيل على مستويات العلاقة بين النّص والقارئ، ويشير إلى تعدّد القراءات والاحتمالات، والانشغال بالحقائق المضمرة، تلتقي نظريات التلّقي الحديثة على اختلافها، فقد توقف إمبرتو إيكو متأثرا بالفلسفة اليونانيّة، وبالمدرستين الهرمسية، والغنوصيّة على وجه خاص ـ عند مفهوم التأويل hermeneutics وليس التفسير interpretation، وذلك في كتابيه : "حدود التأويل"، و"التأويل والتأويل المضاعف"، اللذين يعدّان ثمرة نشاطه المعرفي الطويل في هذا المضمار، ويبرز إلى جانب إيكو اسم فولفغانغ إيسّر في كتابه: "فعل القراءة: نظرية في الاستجابة الجمالية"، بوصفه واحدا من الكتب التي أسّست لمفاهيم مثل: التأويل، النّص، القارئ، القراءة، جماليات التلقّي. كما تبرز أسماء عدّة تناولت هذه المفاهيم في سياق دراستها للنّص من مواقع ورؤى فلسفية، ولسانية، وسيميائية متباينة، مثل: تودوروف، وبارت، وغادامر، وروبرت هانز يوس، وأ. د. هيرش، وستانلي فيش، ومورس بكهام، وجاك دريدا.

إلا أن هذه الأسماء بما تمثّله من اتجاهات سيميائية، وبنيوية جديدة، وتفكيكية، تعيد في مجملها السلطة المركزية للقارئ، وتنحاز لتأويلاته المتعدّدة والمشروطة للنّص "إيكو"، أو اللانهائية وغير المشروطة "دريدا" بل يمضي بعضها إلى تنحية المؤلف، والنّص، وحتّى القارئ والاحتفاء بـ "استجابة القارئ"، أو فعل القراءة وحده! على حدّ تعبير "إيسّر".

ويخلص المؤلف عبر مناقشته إلى تحديد وجهة نظره في تلك المفاهيم، ويرى ضرورة النظر إلى أن بنية النّص الروائي السردية عبر مكوّناتها الكليّة، من عتبات نصيّة، ومستويات، وتنويعات، وتهجينات لغوية، وزمان، ومكان، وشخصيّات، وأحداث، وحوار، ووصف، ووجهة نظر. وعبر تقنياتها الفنيّة، من: صيغ سرد متابينة الأشكال والوظائف "متكلم، غائب، مخاطب"، واسترجاع، واستباق، وتلخيص، وحذف. وعبر تناغمها الأوركسترالي، في تشكيل وتوليد الدلالات، والاستجابات، والتأويلات المتعدّدة المشروطة بإحالات وفضاءات وسياق النّص. ويتعارض هذا التصوّر مع أي محاولة لاستبعاد مكوّن من مكوّنات النّص، أو تقنية من تقنياته، أو مرجعية من مرجعياته، وإحالاته الواقعية، والتخييلية، التي تسهم في استبطان وإثراء نظامه العلامي والجمالي، ودلالاته، وشبكة تفاعلاته وتناصاته ومعانيه المعلنة والمضمرة، وما يعد به. كما يتعارض مع مفهوم القراءات اللانهائية غير المشروطة التي تبيح للقارئ أن يتصرّف في النّص كما يحلو له، وأن يجد فيه ما يريده، أو ما ليس فيه!

يأتي تصوّر نذير جعفر عن "تأويل الرواية" ليؤكّد على ثلاثة مرتكزات أساسيّة:

المرتكز الأول: هو النظر إلى النّص الروائي متناً وخطاباً على أنه سرد فنيّ منفتح، متباين اللغات، والأصوات، والنبرات، والنزعات، والمواقع، ووجهات النظر. يحاكي بأبعاده، وفضاءاته الواقعية، والتخييلية، والحوارية، التنوّع الكلامي، الاجتماعي، ومرجعياته، ومراميه المعلنة، والخفيّة، في سياق زمني/ مكاني متحقّق أو محتمل. ويتعارض هذا التصوّر مع الشكلانية الصرفة التي ترى في النّص ـ أي نصّ كان ـ "ظاهرة لغوية سيمويولوجية" فحسب، أو "مجرّد نظام لغوي يعبّر عن نفسه بنفسه"، أو "هو تصرّف في اللغة لا تمثيل للواقع".

أما المرتكز الثاني: فهو النظر إلى بنية النّص الروائي السردية عبر مكوّناتها الكليّة، من: عتبات نصيّة، ومستويات، وتنويعات، وتهجينات لغوية، وزمان، ومكان، وشخصيّات، وأحداث، وحوار، ووصف، ووجهة نظر. وعبر تقنياتها الفنيّة، من: صيغ سرد متابينة الأشكال والوظائف "متكلم، غائب، مخاطب"، واسترجاع، واستباق، وتلخيص، وحذف. وعبر تناغمها الأوركسترالي، في تشكيل وتوليد الدلالات، والاستجابات، والتأويلات المتعدّدة المشروطة بإحالات وفضاءات وسياق النّص. ويتعارض هذا التصوّر مع أي محاولة لاستبعاد مكوّن من مكوّنات النّص، أو تقنية من تقنياته، أو مرجعية من مرجعياته، وإحالاته الواقعية، والتخييلية، التي تسهم في استبطان وإثراء نظامه العلامي والجمالي، ودلالاته، وشبكة تفاعلاته وتناصاته ومعانيه المعلنة والمضمرة، وما يعد به. كما يتعارض مع مفهوم القراءات اللانهائية غير المشروطة التي تبيح للقارئ أن يتصرّف في النّص كما يحلو له، وأن يجد فيه ما يريده، أو ما ليس فيه!

والمرتكز الثالث: هو النظر إلى العلاقة بين المؤلف والنّص والقارئ، وفعل القراءة، من وجهة تفاعلية لا تغيّب طرفا على حساب الآخر. بل ترى في النّص، ومرجعياته الموضوعية، والفنيّة، والتخييلية، بؤرة التأويل، وفضاءه الأول والأخير. وفي القارئ النموذجي، أو "القارئ العليم، المطّلع" مؤوِّلا يحاور النّص، ويوسِّع حدود معناه ودلالته، فيضيئه ويستضيء به، وينقله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، أو من الكمون إلى التحقّق، مانحاً إياه شهادة ولادته، وفي المؤلف علامةً أو عتبةً نصيّةً مرجعيّةً يمكن تحييدها، أو تفعيلها، بحسب ما يقتضيه سياق النّص. وفي فعل القراءة وحدود وأشكال الاستجابة و"جماليات التلقي" حقلا يُدرس في نطاق سوسيولوجا القراءة. ويتعارض هذا التصور مع أي إقصاء مطلق للمؤلف، أو تنحية للنّص، أو للقارئ، أو لفعل القراءة والاستجابة.

ويؤكد نذير جعفر في قراءته النظرية والتطبيقية على إنّ كل قراءة لنصّ روائي لا تعدو في النهاية أن تكون تأويلاً، يحتمل بانفتاحه تأويلات مشروطة عدة، قد تتفق أو تختلف بهذا القدر أو ذاك، لكنها في النهاية ستعزّز ديمقراطية تلقّيه، وستملأ بياضه وفجواته، وما بين سطوره، وما يحيل عليه، وستستنطق "المسكوت عنه" أو "ما لم ُيقل"، وستزيده ثراء بثراء قرائها النموذجيين الحقيقيين، والمحتملين، بموسوعيتهم، وذائقتهم، وحساسيتهم الفنيّة، والجمالية، ومعرفتهم بالجنس الروائي، وتنوّع أصواته ولغاته، وآليات تشكّله، وآفاقه، وانفتاحه الدائم على المغامرة.

  • Digg
  • Del.icio.us
  • StumbleUpon
  • Reddit
  • Twitter
  • RSS

0 Response to "سبع عشرة رواية وتأويلا"

إرسال تعليق