قراءة في رواية جسد وجسد ..متابعة روز الزهراء
يلاحظ المتلقي في رواية "جسد وجسد" للكاتب السوري عبدالباقي يوسف، طغيان حضور المرأة، لكننا حين نتمعن فيها نجده هامشيا عن الحضور النوعي والمؤثر، إذ لم تكن المرأة (سماح) نداً للرجل، بل تابعة للرجل، فهي أمية ضعيفة، فقيرة، تشحذ رزقها اليومي، فتطرق أبواب الغرباء.
وما يؤكد هذا القول أن حبيبها المثقف (قطب) يحدثنا صراحة عن نظرته إلى النساء، فقد تعرف إلى كثيرات منهن في العاصمة، لكن ذلك لم يكن يتعدى الجلوس في مكان عام على مائدة سهرة ولتضييع الوقت مع إحدى الحسناوات: "وفي النهاية كنت أتركها مع المائدة مثلما أترك ما تبقى من طعام وشراب وأمضي".
هنا يشيّئ المثقف المرأة التي لا يحبها يستطيع تركها بسهولة، دون أن تترك له أي أثر في نفسه، ستتغير تلك النظرة المستخفة بالمرأة حين يتعرف على المرأة الغجرية الفقيرة (سماح).
يرسم الكاتب ملامح المرأة هنا بطريقة مؤسية، إذ أفقدها الفقر كل لون من ألوان الأنوثة، وقد بلغت أقصى حدود المهانة حين ترضى بشحذ لقمة عيشها!
يعجب بها الشاب الأعزب )قطب) الذي يعيش وحيدا فيقبل بترددها على منزله كل أسبوع لتنظيف بيته!
تتيح صفات المرأة وإمكاناتها المحدودة فرصة للرجل أن يبدو أستاذا للمرأة، لهذا يحاول أن يطور شخصيتها بالعلم، فكان يعطيها دروسا في القراءة والكتابة، مشفقا على شبابها الضائع في الجهل "إنها لا تعرف شيئا، وسأصنعها، أعلمها كل شيء، وسأتابع نتائج عملي، وهي مهيأة لاستقبال كل خطواتي، في لا شعورها طفلة في العشرين لا تعرف العدد من المعدود، لا تعرف الموسيقى ولا تجيد الكتابة، لا تعرف شيئا عن تاريخ العالم الحديث".
لكن المرأة الغجرية ترفض في البداية التعلم فنسمع صوت الجهل الذي يستخدم منطقا مغلوطا يتناسب ومستواها المعرفي المتدني، لهذا تقول له:
ـ لا أريد أن يكبر عقلي دعه صغيرا.
ـ لماذا؟
ـ لأن العقول الكبيرة يجب أن تكون للرجال، المرأة التي يكبر عقلها تتحول إلى رجل يرفضها الرجل...
صحيح أنها عاشت في بيئة متحررة منذ طفولتها، لكنها حرية وهمية، لأن الجهل ينتزع مكاسب المرأة ويحيلها إلى عبدة تحاصرها قيوده!
تقول: "إننا لا نؤذي أحدا. هذا أمر يخصك ويخصني، وبالتالي علاقتنا مع الله، لا أحد يدّعي علينا، جسدي يعنيني فقط، إنه ليس ملكا لأحد، ليكون وصيا عليه، إننا نعيش في مجتمع متخلف أكسبنا الكثير من عقده وتخلفه.."
أما ابنة المدينة (الأرملة كلوديا) التي تعيش حياة مريحة، تناقض حياة الغجرية، فتجدها تعاني أزمة ضمير في علاقتها مع (فؤاد) الذي يخالفها في الانتماء الديني، صحيح أنها كانت تعيش معه لحظات حب هاربة تقضيها معه، لكنها بدت منغصة يشوبها عدم الرضى عن الذات، فقد كانت تحس بأنها تلوث "شيئا مقدسا" لا يجوز لها تلويثه!
وقد سيطر عليها هذا الإحساس بسبب تربيتها الدينية، التي تبدو ذات تأثير قوي! لذلك؛ تقول لحبيبها كلاما يناقض ما سمعناه من الغجرية "أنا سعيدة معك، لكنها سعادة غريبة لم يسبق لي أن عرفتها، هل هي سعادة الكآبة وآخر حدود القهر والبؤس، لا أعرف لماذا أحس بأننى لن أكون راضية عن فعل إلا إذا رضي عنه المجتمع والأسرة والكنيسة أيضا، فهل ما أفعله يرضي هؤلاء أم يرضيني وحدي فحسب؟".
إذا تبدو المرأة مؤرقة بسبب علاقتها غير الشرعية مع الرجل ليس لأنها ترفض مثل هذه العلاقة، بل بسبب هيمنة السلطة الاجتماعية والسلطة الدينية، فهي تفكر بما يرضي هاتين السلطتين لهذا لم تبد مرتاحة لعلاقتها مع رجل يخالفها الانتماء الديني! لاسيما أن أحد الرجال تجسس عليها، وحاول ابتزازها بسبب تلك العلاقة!
تبدو فكرة الزواج مستحيلة، لهذا لن تناقشها كلوديا مع فؤاد، ولو قارنا رد فعل كل من الرجل والمرأة إزاء تلك العلاقة، للاحظنا أن المرأة لا تبدو مرتاحة في علاقتها غير الشرعية مع الرجل، فهي تعيش مؤرقة بأفكار بيئتها الاجتماعية والدينية التي تربت عليها. أما الرجل فيبدو سعيدا بتلك العلاقة غير الشرعية وغير المسؤولة لذلك يرى في الزواج تدميرا لحريته، فهو لا يتخيل نفسه يدخل بيتا يتسول فيه يد ابنتهم، فيضعون شروطا فوق طاقته حتى يتكرموا ويوافقوا على أن يجلب ابنتهم لتحجز حريته، إذ يتردد أفراد أسرتها كل يوم لزيارة ابنتهم، وتحطيم نظامه اليومي، وهذا كله دون أي لقاء سوى إضاعة حياته والتفرغ لما تطلبه تلك السيدة، وأولادها الذين سيأتون ويفسدون حياتي، ويرمونني في سجن طلباتهم وإشكالاتهم.
عبدالباقي يوسف | ||
إننا أمام صورة قاتمة للمؤسسة الاجتماعية التي يقوم عليها الزواج، كنا قد لمسناها أيضا في رواية "سرير الوهم" إذ تكررت الشكوى من أعبائه المادية، لكن عبدالباقي يوسف يضيف إليها الأعباء النفسية التي يفرضها الزواج في بعض الأحيان.
في مقابل هذه الصورة القاتمة للزواج في الحاضر! نجد الكاتب يقدم صورة مشرقة له حيث الرجل (والد قطب) لا يملك شيئا، ويعيش بعيدا عن أهله، وحين يشكو لجد (قطب) أنه لا يجد من يعينه على الزواج، نجده يعرض عليه ابنته قائلا: "يا ناهل لن أجد لابنتي (ضحى) شخصا تقيا ورعا مثلك، سيكون مهرها أنك في كل سنة وفي شهر رمضان تهدي إلي ختما من القرآن ما دمت حيا ترزق، وتوصي أولادك وبناتك الذين تنجبهم (ضحى) أن يفعل كل واحد منهم ذلك، ما داموا أحياء يرزقون، لا علاقة لي بالأحفاد، وأنا لقاء ذلك سأقوم بتجهيزها بما يقدرني الله عليه، وأضع يدها في يدك حليلة..."
مع سيطرة القيم المادية الاستهلاكية اليوم ضاعت القيم الروحية التي أسست حياة الأجداد ووجدوا فيها خلاصهم لهذا كان مهر ابنته هدية معنوية ذات أبعاد دينية: هي تلاوة القرآن الكريم، ووهبها إلى روحه!
يبحث والد الفتاة في زوج ابنته عن صفات أصيلة (الإيمان والأخلاق) هي ضمان للزواج الناجح لهذا يسهم في تأسيسه على المودة والرحمة بعيداً عن المظاهر الجوفاء!
في مقابل هذه القيم الأصيلة نعايش في رواية "جسد وجسد" قيماً تقليدية تسهم في تقييد المرأة بمحرمات اجتماعية تنسب إلى الدين! فتبدو المرأة في صورة مشوهة، لهذا وجدنا (أم قطب) لم تكن تخرج من البيت أبدا، ولم يسمع رجل غريب صوتها. فالفكر التقليدي الذي يمثله زوجها يرى أن "صوت المرأة عورة مثل أي عورة في جسدها، وأن الرجل يرى بسمعه جسد المرأة وصوتها بنظره أقوى مما لو رآها رأي العين".
رغم الفكر التقليدي الذي يحاصر المرأة خارج المنزل، وجدنا (أم قطب) تعيش مع زوجها علاقة حب واحترام، في حين كانت المرأة (الغجرية) التي تنطلق بحرية خارج البيت تعيش مع زوجها علاقة غير إنسانية تقوم على الظلم والقهر، لهذا اندفعت في علاقتها مع (قطب) حين لمست إنسانيته ورقته، لهذا وجدناها تحّمل الرجل مسؤولية انحراف المرأة.. فـ "هو الذي يدفع زوجته إلى العهر سواء عن قصد أم غير قصد، لا تنظر إلي هكذا، فأنا لست غبية للحد الذي تتصوره، ما علمتني خفايا البيوت التي ولجتها، لا تقل عما علمتك إياه بطون الكتب التي قرأتها، عندما أعلم بأن زوجي كذاب، يسقط من عيني، وعندما أعلم بأنه غدار، أحتقره وعندما يشتمني أحقد عليه، وعندما يضربني أرغب في الرد. إنه بحركاته هذه يجرد نفسه من أي علاقة بي دون أن يقصد ويفتح الباب لغيره".
كأن الرواية تقول: تبدو المرأة تابعة للرجل، متأثرة بتصرفاته، وردود فعله، لذلك تضيع معالم شخصيتها فتبدو منحرفة حين يكون منحرفا! هل هذا المنطق يليق بالمرأة التي تبحث عن ذاتها، وتريد أن تعيش حياة أفصل؟ هل التمرد على الرجل المنحرف يكون بخيانته؟ هل تمرد المرأة يبيح لها إنجاب طفل من حبيبها (قطب) وإلصاقه بنسب الزوج؟
يمنح الكاتب صورة منفرة للمرأة المتمردة التي تدوس على القيم الأخلاقية، التي تنسجم مع الطبيعة الإنسانية لاسيما في نسب الولد إلى غير أبيه!
إن العبث بالمعطيات الاجتماعية والأخلاقية يشوه صورة المرأة، ولا يسهم في بناء وعي شخصيتها أو نضجها! إن العبث بالمعطيات التي تم التمرد عليها من القوة بحيث تهيمن على لا شعور الكاتب. يموت الطفل، فيتم عقاب المرأة التي ادعته إلى غير أبيه! وبذلك يبرز لنا الكاتب في هذه الرواية أن العبث بتلك المعطيات الأساسية للمجتمع لن يكون دون ثمن باهظ تدفعه المرأة!